أمطرت السماء رذاذا خفيفا, وكان سعيدا جدا وهو يجري تحت الأمطار يفتح ذراعيه ويستقبل قطرات المطر في فمه, كان لماء المطر طعم لاذع, لم يكن وحده, كان معه زملاؤه في المدرسة الابتدائية التي تبعد عن بيته عدة شوارع ويستغرق السير إليها نحو عشر دقائق, كانت برك المياه في الشارع قليلة فكان من السهل تفاديها لولا أن دفعه أحد أقرانه فغاص في إحداها, وامتلأ حذاؤه بالماء وابتل جوربه, وعندما عاد إلي البيت غضبت جدته كثيرا, ونهرته بصوت عال, وكادت تضربه, لكنها بدلا من ذلك احتضنته وبكت. كانت جدته تحبه كثيرا, فقد سماه أبوه علي اسم جده, و تعيش من أجله بعد أن حكمت عليه الأيام باليتم, يتم الأب الأم كما كانت تقول جدته وعيناها تلمعان بالدموع وهو بين النوم واليقظة بين ذراعيها, لم تكن جدته تتركه يغادر حضنها, وعندما كبر قليلا وبدأ يتململ من حصارها له, وازدادت صحتها اعتلالا والتحق بالمدرسة أصبح من الصعب أن يبقي طول الوقت تحت عينيها, فاستسلمت للأمر الواقع, لكنها لم تكن تأكل أو تشرب وهو غائب عنها, وتقضي الوقت تراقب الشارع عبر الشرفة, ولا يرتاح قلبها إلا بعد أن تسمع صوته وقد عاد من مدرسته أو من اللعب في الشارع مع أصحابه. كان فاروق يظن أن أمه متوفاة و لكنه و هو في عمر السابعة عرف أنه أمه لا تزال علي قيد الحياة, يومها عاتب جدته لأنها تقول عنه إنه يتيم الأم, قالت جدته في ضيق إنها تعتبرها ميتة; فقد تركته صغيرا, بمجرد وفاة أبيه, وتزوجت وعاشت حياتها كأنها لم تلده, شعر في كلام الجدة بشيء من الضيق, وربما بشيء من الكره لأمه لم يكن فاروق يدر إن كان يحب أمه أم لا, ولكنه متأكد أنه لا يكرهها, تركته صغيرا وذهبت لتتزوج, ربما كان هذا الأمر ضروريا, لا يعرف, أحيانا يحاول أن يفهم فيتحدث إلي جدته, لكن الجدة تتقدم في العمر وتضعف صحتها وتميل إلي الصمت, تغرق في التفكير, تبتسم لنفسها بين الفينة والأخري, كأنها تستعيد شريط الذكريات, يراقبها فاروق في صمت أيضا, ولا يبقي معها إلا قليلا ثم ينطلق إلي الشارع ليلعب مع أقرانه. يعيش فاروق, الطفل اليتيم الذي فقد أباه صغيرا, وتركته أمه لتربيه جدته العجوز, التي تعيش أحزانها لفقد أحبابها, وتعيش حالة من الفقر والعوز, حيث لا دخل لها إلا معاشا شهريا لا يتجاوز ال700 جنيه, و داهمتها أمراض الشيخوخة, وأصبحت في حاجة إلي دواء شهري مزمن يلتهم النصيب الأكبر من دخلها, كما كبر حفيدها وتدرج في صفوف التعليم, وأصبحت احتياجاته المادية أكبر مما معها من مال قليل, أما الأم فلها حياتها مع زوج وأولاد حالتهم المادية لا تزيد كثيرا عن حالة الجدة, ولا تستطيع أن تساهم في نفقات تربيته. فاروق في حاجة لأصحاب القلوب الرحيمة تمد له يد المساعدة لعل الطريق يستضيء أمامه و يكمل دراسته و لا يتعرض لأنياب الفقر تنهش مستقبله و تدفع به إلي التشرد.