بدون مقدمات, تحولت طهران, بين عشية وضحاها, لتصبح أكثر العواصم اشتعالا بين دول الإقليم, فإيران التي طالما قدمت نفسها كأكثر النظم السياسية استقرارا, بما لها من رصيد داخلي وتعبئة جماهيرية خلف الثورة الإسلامية والمشروع الفارسي, المغلف بالخطاب الشيعي, وخطاب التجاذبات الطائفية في الإقليم, أصبحت هي الأخري عرضة لهزة عنيفة, ربما هي الأقوي منذ الثورة الإسلامية1979, فقد ارتدت سياساتها في دول الربيع العربي إليها وبشكل أسرع مما يتوقعه أحد. ملاحظتان أساسيتان ينبغي التوقف عندهما في التحليل النظري لما يحدث في إيران; الأولي تتعلق بعديد الكتابات النظرية التي توصف ما يحدث الآن, فوفقا لزيجمونت باومان, فإن استقرار النظم السياسية أصبح يتسم بالسيولة وحالة عدم الثبات واللايقين, والفجائية, وهو أيضا ترجمة حقيقية لما سماه جيمس روزناو, وآلان جرينسبان, عصر الاضطراب العالمي, حيث التعقيد الشديد, موجات عدم الاستقرار المتلاحقة, والارتباط الشديد بين الداخل والخارج. وأخيرا يعكس ما تحدث عنه أورليش بيك عن مجتمع المخاطر العالميGlobalRiskSociety, حيث إن التهديد الحقيقي للنظم السياسية ليست هي الحروب والأشكال التقليدية, إنما يعتمد علي قدرة الدول علي الاستجابة لمطالب التنمية وإشكاليات البطالة والفقر داخل المجتمع. الملاحظة الثانية تتعلق بتأكيد الحقيقة التي تقول إن ما يحدث في إيران, لا يبقي داخل إيران, بمعني انعكاس ذلك علي جملة ملفات الإقليم وتوازن القوي القائم, كما أنه بالمقابل يعكس الحقيقة الأخري التي تنطلق من أن طهران تجني ثمار سياستها الخارجية, وأن أفعالها ترتد إليها. إن الحراك الثوري في الداخل الإيراني وبرغم من أنه انطلق أساسا من دوافع اقتصادية بحتة خاصة بسياسات التقشف الحكومية ورفع الدعم عن قطاعات كبيرة من الطبقة الوسطي والفقيرة الإيرانية, نتاج انتكاسة في سقف التوقعات الخاصة بالنخبة السياسية في تدفق الاستثمارات وانتعاش الاقتصاد بعد الاتفاق النووي, ومن رفض الفساد المستشري إلا أنه يشكل رفضا صريحا لسياسات إيران الخارجية, وتنامي الإنفاق الخارجي علي ملفات عدة تشكل بؤرة اهتمام السياسة الخارجية, وبخاصة في دعم الحوثيين في اليمن, وحزب الله في لبنان, والحرس الثوري وعمليات فيلق القدس في سوريا, ودعم الموالين في العراق, وقوات الحشد الشعبي, وحركة حماس في فلسطين. الأمر الذي أدي لرفع مخصصات المؤسسة العسكرية, رغم خطة التقشف, لنحو11 مليار دولار,7 ونصف مليار منها مخصصة للحرس الثوري الذي يقوم بعملياته في الخارج. ويمكن استشعار ذلك من خلال خريطة التظاهرات, حيث هي بدأت من مدينة مشهد, ثاني أكبر المدن الإيرانية, وليست من طهران العاصمة, كما أنها تشكل أهمية دينية كبري, وفي ذلك إعلان علي رفض القبضة الدينية علي الدولة الإيرانية التي تشكل دولة دينية بوجه مدني مجمل. كما طالت التظاهرات مدنا تابعة لمعاقل النظام في مناطق فارسية شيعية مثل فارس وخراسان وقم, علاوة علي مناطق تابعة لبعض النخب المؤثرة مثل النجف موطن رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام, محمود هاشمي شاهرودي, بل طالت منزل المرشد الأعلي خامنئي. كما اتضح أيضا وبشكل خطير وغير مسبوق من خلال الشعارات التي رفعها المتظاهرون, والتي بدأت من مطالب الخبز, العدالة, رفض البطالة, وانتقلت إلي انتقاد النظام الموت للديكتاتور يقصدون حسن روحاني, ثم طالت المرشد الأعلي للثورة وهو منصب مقدس وغير معهود انتقاده, وظهرت شعارات عار عليك سيد علي خامنئي, في رفض صريح لسياسة الدولة الخارجية من خلال شعارات الموت لحزب الله, لا غزة ولا لبنان, روحي فداء إيران, وانتهت بإعلان لا نريد جمهورية إسلامية. بما يشكل, ولأول مرة, انقلابا علي ثوابت الدولة ومخرجات الثورة الإيرانية, وهو ما لم يحدث مسبقا حتي في أحداث الحركة الخضراء عام2009 والتي انتقدت فقط تزوير الانتخابات وسياسة النظام, إلا أن هذا التحول الذي شهد استرجاع ذكريات العهد الملكي, ورفض السطوة الدينية. لقد شهدت الأحداث زخما متلاحقا واتساعا في رقعة التظاهرات ونطاقها, برغم القبضة الأمنية القوية وسياسات النظام ضد المتظاهرين يعاونهم في ذلك البرد الشديد, الذي لم يفلح في وقف التظاهرات, وبصرف النظر عن السيناريوهات التي من الممكن أن ينتهي إليها الوضع, إلا أنه السؤال الرئيسي هنا: هل يمكن أن تؤثر علي السياسة الخارجية الإيرانية؟ للإجابة علي هذا التساؤل, ينبغي الوقوف علي طبيعة النظام السياسي الإيراني بعد الثورة الذي ينطلق أساسا من فكرة تصدير الثورة, ولذا فيوجد ما يمكن تسميته نظاما عسكريا مزدوجاadualmilitarysystem; بحيث توجد مؤسسة تقليدية متمثلة في الجيش النظامي, ومؤسسة غير تقليدية متمثلة في الحرس الثوري الذي أضحي جيشا موازيا, وفي داخله فيلق القدس, للقيام بتلك المهمة. علاوة علي مشروعية النظام المتمثلة في المشروع الفارسي في الإقليم, والذي يري نجاحه في وأد المشروع العربي, وصراع المرجعيات بين قم مقارنة بالنجف في داخل الطائفة الشيعية, والصراع بين المكانة الدينية الروحية مع مكةالمكرمة, وتطويق الدور السعودي, وحصار دول الخليج. إذن, الجمهورية الإسلامية الإيرانية, تعتمد بالأساس علي توظيف الأيديولوجيا, عبر مؤسساتها الأمنية العسكرية المختلفة, وعلي مشروع الدولة الدينية, بشكل مدني مراوغ, وعلي تصدير الثورة عن طريق أدواتها الرسمية مثل الحرس الثوري, أو عن طريق الفاعلين من دون الدول, سواء كانت ميليشيات أو حركات وأحزابا, مثل حركة أنصار الله في اليمن, حماس في فلسطين, حزب الله في لبنان, الحشد الشعبي في العراق. ولذا, فإن أي حديث عن تغيير السياسة الخارجية الإيرانية هو حديث عن تغيير شكل الدولة ومشروعها ومصدر مشروعيتها, هو حديث عن الفكرة الأساسية وجوهر وجود إيران بعد1979, وهو ما لن يقبله النظام بأي شكل من الأشكال, وسيسعي لتحويل الانتباه والصراع للداخل وتوجيهه للحكومة أو الرئيس, لا أكثر من ذلك. ولذا, فإنه في حال تزايد الحراك, فإن السياسة الخارجية الإيرانية قد تعمل علي تعديل تكتيكي من خلال سرعة حسم بعض الملفات شديدة الارتباط بها مثل الأزمة السورية, خاصة مع تواجدها منذ أكثر من ثلاث سنوات في ميادين سوريا, وفي معارك حاسمة في حلب وبوكمال. علاوة علي حسم الأمور في اليمن, واستثمار موت علي عبد الله صالح, وتحقيق مزيد من سيطرة حزب الله في الداخل بعد تجاوز أزمة الحريري, وقد تسعي لتأجيل ملفات معينة مثل دعم حماس, والملف العراقي بعد استقرار الأوضاع نسبيا. فالسياسة الخارجية الإيرانية, مرتبطة ببقاء النظام الثوري, فطالما استمر النظام, فالخط العام قائم ومستقر وداعم لمزيد من الأدوار الإقليمية المتوسعة, التي جعلت من إيران أحد أهم الدول المؤثرة في ملفات عدة, متفوقة علي دول مثل إسرائيل وتركيا. إلا أن تلك الهزة العنيفة وستنعكس علي مدي الثقة والاعتماد الكامل علي طهران من الشركاء الدوليين كموازن قوي وفاعل في الإقليم, خاصة من جانب روسيا وتركيا, وستزيد من عزلة النظام خاصة مع الدفع الذي صاحب الأحداث من جانب بعض الدول, خاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية.