مازالت الأزمة الليبية تراوح مكانها رغم المحاولات الحثيثة من قبل رئيس بعثة الأممالمتحدة للدعم في ليبيا, غسان سلامة, الذي حاول أن يعطي دفعة للمسار السياسي عبر طرح خطة ترتكز علي تعديل الاتفاق السياسي الذي وقعت عليه الأطراف الليبية يوم17 ديسمبر2015 بالصخيرات المغربية. لكن خطة المبعوث الأممي إلي ليبيا, غسان سلامة, اصطدمت بعدد من التحديات, بداية من تعديل بعض مواد الاتفاق السياسي, وعقد المؤتمر الجامع للمصالحة الشاملة, والاستفتاء علي الدستور, وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة, حيث كل هذه التحديات مرتبطة بالواقع المعقد علي الأرض, فتركيبة الأطراف الليبية من الناحية السياسية وتمركزات القوي المسلحة يجعل تنفيذ الاتفاق مرهونا بمدي توافق الفريق الواحد علي رؤيتهم للاتفاق السياسي من أساسه وتعديلات سلامة المقترحة, وهو ما تفتقده أغلب أطراف الأزمة, فكل طرف هو في الحقيقة مكون من ائتلاف أيديولوجي وجهوي وعسكري وما يجمعهم هو العداء للطرف المقابل, ولا تجمعهم رؤية سياسية لإدارة الدولة, بل إن بعض الأيديولوجيات, خاصة الإسلام السياسي, تتعارض مع مفهوم الدولة الوطنية ولا تقبل بالشراكة في السلطة, فأغلب الأطراف مرتبطة بدول إقليمية لها رؤيتها ومصالحها وموقفها من التيارات التي يمكن أن تصل للسلطة في ليبيا. لذلك فإن أغلب الأطراف المتصارعة تنظر للاتفاق السياسي وتعديلاته كوسيلة لإقصاء خصومهم وعلي أقل تقدير إضعافها وتهميشها خاصة أن الأطراف تجاوزت أزمة الشرعية وأصبح كل طرف يفرض سلطة الأمر الواقع علي المناطق التي يسيطر عليها. وهذا الأمر تجسد خلال اجتماعات لجنة الصياغة الموحدة لمجلسي النواب والدولة, الخاصة بصياغة تعديلات الاتفاق السياسي بتونس في أكتوبر الماضي, حيث فشل الطرفان في الوصول إلي اتفاق علي تعديل المواد المراد تعديلها ما جعل المبعوث الأممي غسان سلامة يركز إعلاميا علي عقد المؤتمر الجامع للمصالحة وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية كمناورة للضغط علي مجلسي النواب والدولة من أجل تقديم التنازلات وتعديل الاتفاق والسير خطوات للأمام, خاصة أن سلامة لمس عند بعض أطراف الصراع خوفها من إجراء الانتخابات, محاولة البقاء في السلطة عبر الوصول إلي مواقع في المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق عبر الاتفاق السياسي, وأن حديثها عن الانتخابات لا يعدو كونه مناورة لا أكثر, وهو ما لم يحدث, وبالتالي جاء حديث سلامة عن إجراء الانتخابات كمن يهرب إلي الأمام. وهنا يجب أن نشير إلي أن المبعوث الأممي إلي ليبيا, غسان سلامة, رغم دعوته إلي إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية إلا أنه في نفس الوقت وضع إمكانية عدم إجرائها, علي أنه أمر وارد بشكل كبير عبر وضع شروط تمثل واقعا تعيشه البلاد مثل الوضعين الأمني والعسكري, والأخطر حسب وجهة نظري هو اشتراطه إعلان مختلف الجهات الفاعلة أنها علي استعداد للقبول بالنتائج, وألا يتم استعمالها لإضافة مشكلة جديدة, وهنا نطرح سؤالا حول جدية المجتمع الدولي في حل الأزمة الليبية: إذا كان لا يملك وسيلة للضغط أو قوة تلزم أطراف الصراع بقبول نتائج الانتخابات وتسليم السلطة للفريق الفائز.. فكيف سيفرض علي هذه الأطراف الالتزام بتنفيذ الاتفاق السياسي؟! وهذا الأمر زاد من تخوف الكثيرين من الذهاب إلي انتخابات لن يعترف بنتائجها الطرف الخاسر, خاصة أن أغلب الأطراف بدأت تشكك في نزاهة العملية الانتخابية, وتلمح إلي أنها لن تكون نزيهة, وهو ما أشار إليه القائد العام للقوات المسلحة الليبية المشير خليفة حفتر, الذي طالب بنقل مقر المفوضية العليا للانتخابات من العاصمة طرابلس وتغيير إدارتها, بل ذهب أبعد من ذلك حينما قال إن الشعب هو صاحب القرار, ويحق له ما يريد, وإن دم الشهداء وتضحياتهم لن تذهب هباء في انتخابات يتلاعب بها الإخوان المسلمون والإسلام السياسي بشكل عام. كما عبر البعض عن تخوفه من أن ترفض بعض الأطراف إجراء الانتخابات من أساسها, وهو ما ذهب إليه رئيس مجلس الدولة, عبدالرحمن السويحلي, عندما اعتبر أن الدعوة لإجراء الانتخابات في ليبيا هي قرار سيادي يملكه مجلس الدولة ومجلس النواب حصريا دون سواهما ما اعتبره البعض محاولة لقطع الطريق علي دعوة المبعوث الأممي غسان سلامة. كما أن المراكز الانتخابية في مدينة بنغازي وبعض البلدات بالمنطقة الشرقية تعرضت للاعتداء من قبل أنصار المشير خليفة حفتر, حيث قاموا بتحطيم الأرقام التي ركبتها المفوضية العليا للانتخابات علي المدارس التي تم اختيارها لتكون مراكز اقتراح, معلنين رفضهم الانتخابات, ومطالبين بتفويض المشير حفتر رئيسا للبلاد. وهذا يقودنا إلي أن إجراء انتخابات يتطلب أولا تسوية سياسية خاصة بالانتخابات, وأن تعمل أطراف الصراع معا لوضع ضوابط وشروط وأسس وقانون انتخابي توضح فيه كافة الشروط والضوابط للوصول للانتخابات, كما يتطلب ضمانات دولية تضغط علي جميع الأطراف بضرورة القبول والالتزام بنتائج الانتخابات, وعدم تدخل واستخدام الميليشيات المسلحة في الانتخابات. مع كل ما سبق أعتقد أن حل الأزمة الليبية يبدأ من ضرورة ضمان تحصين العاصمة طرابلس من تأثير أي قوي مسلحة بغض النظر عن من تكون, فلنجاح أي محاولة لاستعادة الدولة وبناء مؤسساتها يجب أن تتركز الجهود علي تأمين العاصمة عبر دعم خطوات إعادة تفعيل المؤسسة العسكرية وجهاز الشرطة, وإضعاف الميليشيات المسلحة وتحجيمها وإعادتها إلي مناطقها كخطوة أولي لحلها, وتنظيف العاصمة من الوجود الميليشياوي, فكيف تقنع الحكومة أو أصحاب المبادرات الوطنية الميليشيات المسلحة( جهوية إسلاموية عصابات) في أي منطقة ليبية شرقا وجنوبا وغربا بضرورة تسليم سلاحها وخضوعها للدولة, بينما الحكومة ومؤسسات الدولة والمنشآت الحيوية في العاصمة رهينة عند ميليشيات وأمراء حرب آخرين؟! وهذا هو المأزق الذي تعاني منه حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج التي لم تنجح في إحداث أي تغيير إيجابي ملموس سواء علي مستوي الترتيبات الأمنية وإعادة تفعيل الجيش والشرطة أو بالنسبة للخدمات والأزمات المعيشية للمواطنين حتي في نطاق العاصمة طرابلس. بمعني أن أزمة ليبيا تكمن في استمرار الفشل في تفعيل مؤسسات الدولة بشكل كامل في العاصمة طرابلس, وغياب نموذج مؤسسات الدولة الفاعلة في العاصمة هو الأزمة الحقيقية التي تعانيها ليبيا, فالطبيعي والأقرب أن يطالب الناس في المدن والمناطق والقري بتفعيل مؤسسات الدولة في مدنهم ومناطقهم علي غرار العاصمة واللحاق بها وليس العكس, وهذا الأمر قد يتطلب توجيه ضربات عسكرية محدودة لمعاقل بعض الميلشيات داخل وخارج طرابلس لإحداث توازن ومنح القوة للعملية السياسية وتحجيم بعض القوي المسلحة وهو أمر يتوقف علي مدي جدية المجتمع الدولي في دعم تنفيذ الاتفاق السياسي الذي أصبح يحتاج إلي عمليات عسكرية محدودة لتنفيذ ترتيباته الأمنية. فالحديث عن وضع حلول للتدهور الأمني ونقص السيولة المالية وارتفاع سعر صرف الدولار أمام الدينار وانقطاع الكهرباء وتدفق الهجرة غير الشرعية هو مجرد مسكنات يحاول من خلالها البعض التعامل مع النتائج وليس الأسباب, فهذه الأزمات هي نتيجة طبيعية للأزمة السياسية التي تعانيها البلاد.