لم تستقر الأوضاع السياسية والأمنية في ليبيا بعد, وإن كانت حدة الهجمات الإرهابية والتفجيرات والاشتباكات المسلحة بين الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر وبين الميليشيات المسلحة خفت حدتها كثيرا عن ذي قبل, ولم تصل المفاوضات والمشاورات والاجتماعات التي تعقد داخل ليبيا وخارجها بين السياسيين الفاعلين إلي صيغة توافقية نهائية ترضي كل أطراف العملية السياسية وتحقق مصالح الشعب الليبي من استقرار سياسي وأمني لبناء ما تهدم علي مدي سنوات الثورة التي أطاحت بالقذافي قبل6 سنوات, ولا تزال الأمور تراوح مكانها, في ظل وجود ثلاث حكومات( توافق وإنقاذ ومؤقتة). ولعل الإشكالية الأساسية في الأزمة الليبية تتمثل في تشابك وتعقد وتداخل الأجندات الخارجية الغربية( الأمريكية والإيطالية والفرنسية والبريطانية والألمانية وغيرها), مع الأجندات الإقليمية( التركية والقطرية والإسرائيلية) التي لا تسعي إلي تحقيق التوافق الليبي بقدر سعيها إلي تحقيق مصالح خاصة مع الأجندة الوطنية بأطرافها المختلفة والتي لا تخلو بعض أطرافها من تنسيق مع أطراف خارجية أيضا لمصالح خاصة, وأخيرا دول جوار ليبيا التي تسعي إلي إقرار الأوضاع الأمنية في هذا البلد العربي الشقيق حتي لا تنتقل إليها تداعيات الصراع الليبي الليبي. من بين الأطراف التي تحاول إيجاد دور حقيقي لها علي الأرض منظمة الأممالمتحدة من خلال مبعوثها الحالي غسان سلامة, تلك المنظمة التي شابت مواقفها ملاحظات عديدة لا سيما في عهود المبعوثين السابقين( برناردينو ليون, مارتن كوبلر) الذين مالت مواقفهم إلي تعزيز رؤية القوي الدولية الفاعلة في الشأن الليبي. ومنذ أغسطس الماضي لم يمر وقت طويل علي تولي غسان سلامة المبعوث الأممي الجديد مهام منصبه لكي تظهر بصماته لحلحلة الأزمة, إلا أن مقارباته الحالية تكشف سعيا حقيقيا للوصول إلي حلول مقبولة نسبيا مقارنة بما كان سابقوه يطرحونه من حلول ممن تعاملوا مع ليبيا ليس كمبعوثين دوليين ولكن كمندوبين ساميين تصورا أنهم يحكمون ليبيا وذلك وفقا لانتقادات أكاديميين وسياسيين ليبيين بارزين. مقاربات سلامة إلي الآن تكشف أنه يتعامل مع الأزمة الليبية من زاوية تقريب المسافات بين الفرقاء السياسيين, من دون إدراك حقيقة الصراع الليبي الذي هو في حقيقة الأمر صراع أمني وليس صراعا سياسيا, إلا أن أية تحفظات علي أداء سلامة لا ينبغي لها تجاهل كونه موظفا دوليا يعمل في إطار منظمة أممية مرهونة بالإرادات الدولية النافذة, وتخضع لإملاءات وتوجيهات الأقطاب الدولية التي تسيطر علي النظام العالمي وتمولها. غسان سلامة قدم لأنطونيو جوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة أواخر سبتمبر الماضي أي بعد شهر واحد علي تولي منصبه خطة عمل أو مبادرة جديدة بشأن ليبيا تتضمن عددا من الخطوات لاستئناف المرحلة الانتقالية المتوقفة في ليبيا وتنشيط الحكومة التي بالكاد تؤدي أعمالها, أهمها تعديل الاتفاق السياسي الليبي الذي تم التوقيع عليه في ديسمبر2015 وإعادة هيكلة الحكومة الحالية, وعقد مؤتمر وطني شامل, ووضع اللمسات الأخيرة علي الدستور وإقراره, وإجراء انتخابات بناء علي قانون انتخابي ودستور جديدين. تبدو مبادرة غسان مقبولة لمن يجهل حقيقة الأزمة في ليبيا, إلا أن كل مرحلة من مراحل مبادرته قد تؤدي إلي تجدد الصراعات, وزعزعة الاستقرار الذي تسعي خطة العمل إلي تحقيقه, بينما يري مراقبون ومحللون دوليون أن وجود عملية سياسية غير كاملة أفضل كثيرا من مستوي العنف الذي شهدته الحرب الأهلية خلال الفترة2014-.2015 ومن أجل تحقيق نتائج إيجابية لجهود سلامة, يتعين علي المجتمع الدولي دعم الحوار الأممي واستكماله, بدلا من التعاون مع الفصائل الليبية المتصارعة التي تسعي إلي التوصل إلي اتفاق أفضل لمصالحها الخاصة. ولا شك أن مبادرة سلامة والتي جاءت نتيجة جولاته في ليبيا علي مدي شهرين تعكس رغبة حقيقية من جانبه للتوصل إلي حلول مقبولة ومساعيه إلي تحقيق وحدة وطنية ليبية متينة وذلك من واقع تصريحاته التي قال فيها: لا توجد دولة من دون وحدة وطنية متينة, ولا دولة بدون التزام شامل بالمصلحة العامة, ولا دولة من دون مؤسسات متينة يتجسد مفهومها. إلا أن الأهم من جهود المبعوث الأممي لتحقيق هذه الأهداف أن يشهد المجتمع الليبي تحسنا ملحوظا في الخدمات الأساسية تلبي له احتياجاته اليومية, وإقرار القانون والنظام, وتخفيف العجز النقدي, وقتها قد يفيد عقد المؤتمر الوطني الذي دعا له سلامة لاستكمال صياغة نهائية للدستور الليبي, تمهيدا لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية, وهي كلها إجراءات قد لا يتمكن سلامة وحده من تحقيقها, لأن حجم الخلافات علي مسائل أساسية وحساسة في الاتفاق السياسي الصخيرات المقرر تعديله والمتعلقة بتحديد صلاحيات وأدوار وعدد أعضاء المجلس الرئاسي ومجلس الدولة الأعلي ومجلس النواب أكبر من قدراته وصلاحياته كموظف أممي عليه الالتزام بتوجيهات المنظمة التي يعمل بها, فضلا عن صعوبة تحقيق الاتفاق بين الأطراف السياسية الليبية الفاعلة بسبب الاستقطاب الدولي والإقليمي لبعض عناصرها.