أصبح العالم- كما يقولون- قرية صغيرة في عصر التكنولوجيا التي سهلت الاتصال بين الناس من مختلف البلدان وجعلت التواصل بين الأفراد متاحا بضغطة زر بعد أن كان شاقا للغاية في عصور سابقة من حيث المسافة الزمانية والمكانية.. كان من المفترض أن تتطور أخلاق البشر أيضا لتواكب ذلك التطور التكنولوجي السريع, ولكن ما حدث هو العكس تماما.. وكأن العلاقة بين التكنولوجيا والأخلاق علاقة عكسية فكلما تطورت التكنولوجيا تراجعت الأخلاق وتحديدا في مجتمعاتنا العربية.. وليست التكنولوجيا بالطبع هي السبب في تراجع الأخلاق وإنما هي فاضحة لهذا التراجع الذي بات جليا من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي كشفت سوءات الكثيرين من مستخدميهم.. فسوءات العالم الافتراضي ما هي إلا انعكاسات لسوءات الواقع لهؤلاء الذين يستغلون تسترهم خلف شاشات حواسبهم الآلية وهواتفهم المحمولة ليمارسوا سلوكياتهم المتردية علي غيرهم من مستخدمي هذه المواقع.. فجميع الآفات المجتمعية التي نعاني منها في شوارعنا نعاني منها أيضا في صفحات العالم الافتراضي ليتلاشي الحد الفاصل بين الواقع والافتراض فلا مهرب في الحالتين من مرضي الأخلاق والفكر. فعلي سبيل المثال لم يعد التحرش مقصورا علي الشوارع وإنما بات الكترونيا كذلك.. أيضا النصب والسرقة والاحتيال كلها أصبحت أمرا اعتياديا في العالم الافتراضي وربما بمزيد من الجرأة والوقاحة حيث يتخفي مرتكبوها خلف أسماء مستعارة وشخصيات وهمية.. وغيرها من جرائم أخلاقية التي أصبحت لا تعد ولا تحصي في عالمينا الواقعي والافتراضي. إن ما يحدث من جرائم الكترونية بمختلف صورها ومسمياتها ما هو إلا صورة ضوئية مما يحدث من جرائم علي أرضع الواقع من ذات الفئة المنحرفة أخلاقيا وسلوكيا.. وما يسهم في تفاقم هذه الظاهرة التي باتت تهدد أمن وسلامة المجتمع بأكمله هو افتقادنا للتربية السليمة والتعليم الصحيح وافتقارنا إلي التوعية الإعلامية والثقافية التي من شأنها تقويم سلوك الفرد بوجه عام فأصبحنا ندور في دائرة مفرغة من الانهيار الأخلاقي الذي بدوره يتسبب في انهيار المجتمع بأكمله.. البعض يمارس جميع السلوكيات السيئة والمتردية بفجاجة ووقاحة بحجة الحرية الشخصية والبعض الآخر يحن إلي زمن مضي حيث كانت الأخلاق راقية لتتسع الهوة أكثر وأكثر بين الفئتين في المجتمع وتتسع معها تلك الدائرة المفرغة ليستمر الصدام المجتمعي قائما بين الجميع.. ولكي نخرج من هذه المتاهة نحن بحاجة إلي إعادة صياغة الكثير من المفاهيم في حياتنا اليومية كمفهوم الأخلاق بمعناه الأعم والأشمل لكي نتمكن من تربية أبنائنا تربية سليمة تجعلهم يدركون أن ما من فارق بين العالمين الواقعي والافتراضي وأن ما لا يمكنهم ممارسته من سلوكيات سلبية وأخلاقيات خاطئة علي أرض الواقع لا يمكنهم ممارسته أيضا في العالم الافتراضي حتي وإن كانوا مجهولين بالنسبة لمن يتعاملون معهم. نحن أصبحنا في أشد الحاجة لإعادة إيقاظ الضمير في كل فرد من أفراد المجتمع حتي يصبح رقيبا علي نفسه فلا يتعدي علي حريات الآخرين ولا يتعرض لهم بسوء, وهو الدور الذي يجب أن تؤديه الأسرة أولا والمؤسسات التربوية والتعليمية ثانيا حتي نعود مجتمعا راقيا ومتحضرا كما كنا من قبل.. وهو ما لن يتحقق إلا إذا أدركنا حقيقة الأمراض المجتمعية الناجمة عن كنا من قبل.. وهو ما لن يتحقق إلا إذا أدركنا حيقة الأمراض المجتمعية الناجمة عن التكنولوجيا الحديثة التي أصابت الكثيرين في وقتنا الراهن, والتي إن لم يتم تداركها وعلاجها قد تتحول لدي البعض بالوقت إلي أمراض نفسية حقيقية قد تجعلهم مجرمين فعليين لا يتورعون عن ارتكاب أي جريمة في عالمهم الواقعي كما يرتكبونها في عالمهم الافتراضي.