شهر رمضان المبارك هو شهر القرآن; القرآن الذي لا تنطفئ مصابيحه, والسراج الذي لا يخبو توقده, والمنهاج الذي لا يضل ناهجه, والعز الذي لا يهزم أنصاره. القرآن هو بمثابة الروح للجسد, والنور للهداية, فمن لم يقرأ القرآن ولم يعمل به فما هو بحي, وإن تكلم, أو عمل, أو غدا أو راح, بل هو ميت الأحياء, ومن لم يعمل به ضل وما اهتدي, وإن طار في السماء, أو غاص في الماء: أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها الأنعام:122, إن الإنسان بلا قرآن كالحياة بلا ماء ولا هواء, بل إن الإفلاس متحقق في حسه ونفسه; ذلك أن القرآن هو الدواء والشفاء: قل هو للذين آمنوا هدي وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمي أولئك ينادون من مكان بعيد فصلت:44. يقول الدكتور حمادة القناوي من علماء الأوقاف: مما لاشك فيه أن صلة الكثيرين بكتاب ربهم يكتنفها شيء من الهجران والعقوق, سواء في تلاوته, أو في العمل به, بل إن علل الأمم السابقة قد تسللت إلي أمة الإسلام لواذا وهي لا تشعر, فلو نظرنا إلي قول الباري جل وعلا: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون البقرة:78, يقول المفسرون: أي لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة وترتيلا, بحيث لا يجاوز حناجرهم وتراقيهم, كل ذلك بسبب الغياب القلبي, والعجز الروحي عن تدبر القرآن, بل إن البعض علي قلوب أقفالها, ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا, أفلا يتدبرون القرآن إذا؟ إن من أسباب عدم التدبر: هو البعد عن اكتشاف سنن الله في الأنفس والآفاق, وحسن تسخيرها, والتحرر غير المبعض, من تقديس الأفهام المغلوطة, والتأويلات المآربية المخلوطة, التي انحدرت إلي كثير من أوساط الناس عبر لوثات علل وأفهام, يغذيها شعور طاغ من حب الدنيا وكراهية الموت, وما عند الله خير وأبقي للذين هم لربهم يرهبون. روي الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن زياد بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه قال:{ ذكر النبي صلي الله عليه وسلم شيئا فقال: وذلك عند ذهاب العلم, قلنا يا رسول الله: كيف يذهب العلم, ونحن قرأنا القرآن, ونقرئه أبناءنا, وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم؟ فقال: ثكلتك أمك ياابن لبيد! إن كنت لأراك من أفقه الرجال في المدينة, أوليس اليهود والنصاري بأيديهم التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء؟}. إن المرء المسلم لتأخذ الدهشة بلبه كل مأخذ, حين يري مواقف الكثير من المسلمين مع كتاب ربهم, وقد أحاط بهم الظلام, وادلهمت عليهم الخطوب من كل حدب وصوب, ثم هم يتخبطون خبط عشواء, أفلست العقول, وتدهورت القوميات, وهشت العولميات, فياللعجب! كيف يكون النور بين أيدينا ثم نحن نلحق بركاب الأمم من غيرنا؟! تتهاوي بنا الريح في كل اتجاه لا نلوي علي شيء, لقد عاش رسول الله صلي الله عليه وسلم ثلاثة وستين عاما, ولقد كنا نسمع كثيرا أن كبر السن وصروف الحياة المتقلبة قد تشيب منها مفارق الإنسان, فما ظنكم بمن تمر به هذه كلها واحدة تلو الأخري, ثم هو ينسب المشيب الذي فيه إلي آيات من كتاب الله كان يرددها, ومعان يتأولها ويتدبرها, روي الترمذي والحاكم: أن أبا بكر رضي الله تعالي عنه سأل رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال:{ يا رسول الله! ما شيبك؟ قال: شيبتني هود, والواقعة, وعم يتساءلون, وإذا الشمس كورت}. و يضيف الدكتور حمادة القناوي أن رمضان بهذه الإطلالة المباركة ليعد فرصة كبري, ومنحة عظمي للمرء المسلم, في أن يطهر نفسه بالنهار لكي يعدها لتلقي هدايات القرآن في قيام الليل قال تعالي:{ إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا}, المزمل:6] وناشئة الليل: هي ساعاته وأوقاته, فهي أجمع علي التلاوة من قيام النهار; لأنه وقت انتشار الناس, ولغط الأصوات, فكأن الصيام في النهار تخلية, والقيام بالقرآن في الليل تحلية. يقول عليه الصلاة والسلام كما عند الحاكم بسند صحيح:{ يأتي القرآن والصيام يوم القيامة فيقول القرآن: يارب! منعت هذا نومه بالليل- أي يتهجد ويقرأ- فيشفع في صاحبه, ويقول الصيام: يارب! منعته طعامه في النهار فيشفع في صاحبه}. وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:{ كان رسول الله صلي الله عليه وسلم أجود الناس, وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن, فلرسول الله صلي الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة}. إننا نستشف من الحديث فائدة كبري وهي: أن القرآن والإنفاق لهما فضل كبير, في شهر القرآن والإنفاق:{ إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور* ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور}, فاطر:29-30].فينبغي علينا أن نشمر عن ساعد الجد ونري الله من أنفسنا خيرا ونحول بيوتنا ومساجدنا خلايا نحل نتلو القرآن آناء الليل و أطراف النهار ونتذكر أن الحرف بعشرحسنات من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها, ولا أقول لكم ألم حرف ولكن, ألف حرف ولام حرف وميم حرف أخرجه الترمذي(2910) كما يقول الدكتور أسامة الشيخ أستاذ الفقه المقارن المساعد بكلية الشريعة والقانون بطنطا: فضل الله شهر رمضان بجعله شهر الصوم بإنزال القرآن فيه, فهو شهر القرآن, فقد قال ابن كثير رحمه الله: يمدح تعالي شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينها لإنزال القرآن العظيم, ففيه كان ابتداء إنزاله, وقد أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ من بيت العزة إلي السماء الدنيا في تلك الليلة, ثم نزل منجما( مفرقا) علي قلب النبي صلي الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة مدة النبوة كان ابتداء هذا التنزل في ليلة القدر المباركة; قال تعالي:{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان},البقرة:185], وقال عز وجل:{ إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين}, الدخان:3], وقال سبحانه:{ إنا أنزلناه في ليلة القدر}., القدر:1] وإذا كان رمضان هو شهر القرآن فينبغي علي المسلم اغتنام الفرصة في هذا الشهر المبارك بأن يلتصق بكتاب الله قراءة وتدبرا وعملا,وقد رغب النبي- في قراءة القرآن فبين أجر القراءة وأنها تحسب الحسنات بعدد الأحرف, كما في حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:(من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة, والحسنة بعشر أمثالها, لا أقول( الم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف). رواه الترمذي. وقد كان للنبي صلي الله عليه وسلم- تعامل خاص مع القرآن في هذا الشهر المبارك, وكان هذا التعامل يفيض علي نفسه, فيدفع بها إلي أفعال الخير المتنوعة, وزيادة في الجود أكثر مما كانت عليه قبل رمضان,وقد عبر عن ذلك ابن عباس- رضي الله عنه- فقال:كان رسول الله صلي الله عليه وسلم أجود الناس, وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل, وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن, فلرسول الله صلي الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة رواه البخاري, وقد زادت هذه المدارسة في العام الذي قبض فيه النبي-, فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال في جبريل: كان يعرض علي النبي صلي الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة, فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه, وكان يعتكف كل عام عشرا, فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه. رواه البخاري, وهذه المدارسة غير التلاوة المجردة, ففيها مراجعة للحفظ, وهذا يعني أن الحفاظ يغتنمون ليالي رمضان في مراجعة حفظهم بتدارس القرآن مع بعضهم, وهذا يعني أيضا أن ليالي رمضان تشغل بتلاوة القرآن, كما كان يفعل جبريل مع النبي-, وقد كانت هذه سنته منذ البعثة, ولا يعني شغل الليل بتلاوة القرآن الاقتصار علي مراجعة الحفظ, بل يدخل في ذلك تدبر القرآن وفهمه, ولذلك اختار جبريل مدارسة النبي- بالليل, وهذا النوع من المدارسة هو الذي يفضي إلي الازدياد من الخير, قال ابن حجر رحمه الله:( وفيه أن مداومة التلاوة توجب زيادة الخير... وأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم, لأن الليل مظنة ذلك لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية). و يوضح الدكتور أسامة الشيخ نلاحظ أن الكثير من المسلمين يحرصون علي ختم القرآن في رمضان, ولكن الخطأ الذي يقع فيه كثير من المسلمين هو اقتصارهم علي الإكثار من الختمات دون مراعاة للفهم, فيتباري الناس في عدد ختمات القرآن, ولا يتبارون في تدبرهم له, وقد بلغ النبي- أن عبد الله بن عمرو يقرأ القرآن في ليلة فقال له:(اقرا القرآن في أربعين). رواه الترمذي, فلما قال له أنه يطيق أكثر من ذلك وراجع النبي- في المدة قال له-:( اقرا القرآن في كل شهر). قال: قلت: إني أجد قوة. قال:( فاقراه في عشرين ليلة). قال: قلت: إني أجد قوة. قال:( فاقراه في سبع ولا تزد علي ذلك). رواه البخاري ومسلم, ولما استمر الحوار وقال عبد الله أنه يطيق قراءة القرآن في أقل من ثلاث ليال, قال له النبي-:( لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث). رواه الترمذي. فالهدف من قراءة القرآن ليس الانتهاء من الختمة, وإنما الهدف من القراءة أن يفقه المسلم ما يقرأ ليهتدي بنور القرآن, ولذلك أثر عن الصحابة التحذير من الإسراع في القراءة بغير تدبر, ومن ثم: فإن الواجب هو الانشغال بفهم القرآن وتدبره علي الإكثار من القراءة, ولذلك أمرنا ربنا بتدبر القرآن, وتدبره لا يكون بسرعة القراءة وإنما بالتروي والتأمل, قال تعالي:{ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}( النساء:82) وقال سبحانه:{ أفلا يتدبرون القرآن أم علي قلوب أقفالها}(محمد:24) والخلاصة ما قاله عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: لا تنثروه نثر الدقل, ولا تهذوه هذ الشعر, قفوا عند عجائبه, وحركوا به القلوب, ولا يكن هم أحدكم آخر السورة. رواه البيهقي في شعب الإيمان.