ألزمني تضارب مواعيد الطيران من مدينة ورزازات إلي الدار البيضاء أن اقسم الرحلة إلي قسمين, رحلة برية إلي مراكش ومنها بالطائرة إلي كازابلانكا/الدار البيضاء. تتطلب رحلة السيارة عبور جبال الأطلسي عبر مسارات إفعوانية لا تزيد فيها السرعة عن سبعين كيلومترا في الساعة, وسائق خبير يعلم يقينا أن طريقا يتلوي مع حافة الجبل كأفعي لنحو مائتي كيلومتر يحتاج نحو أربع ساعات من الصبر الجميل. في الموعد المحدد, وجدت مرافقي منتظرا بمدخل الفندق. طويلا كشجرة سنديان. ممشوقا كرمح. مشدودا كوتر في قوس. دون الثلاثين سنة. يغشي وجهه سمرة خفيفة من أثر الشمس. أكسبه زي الطوارق مهابة وحضور. يعتم بشال أزرق بدا كمركب صغير يهدهده الموج كلما حرك رأسه, فيما ينزل الشال مغطيا عنقة ومنسدلا علي صدره, ويصل قميصه السكري اللون إلي حدود ركبتيه, يعلوه قميص آخر بدون أكمام مفتوح من الجانبين يمتد حتي صندله ذي السيور البنية العريضة, إذا وقف عقد ذراعيه أسفل القميص العلوي فيبدو تحت أرديته كتمثال من عاج. في العادة أقضي أوقات السفر بين القراءة وتأمل مشاهد الطريق محاولا فهم العلاقة بين الجغرافيا والسكان وسبلهم في التأقلم وتحويل التحديات إلي مواضع قوة وتمايز. اختلف الأمر مع صاحبنا الذي إنساب بحر حديثه عذبا رقراقا يستمد علمه من مفردات طبيعة بكر, فبدا خادمكم صحراء تستجدي المطر كي تنبت بذور معرفتها, وأشجارا تشتاق لقطرات ندي نقية تسقي عروقا جفت وثمارا ذبلت.( يمكنك أن تناديني موحا) قالها بإنجليزية سليمة مادا الشطر الثاني, ثم أردف( للأسف لا أعرف من العربية إلا ما أصلي به, الأمازيغية لغتي الأم, واتحدث أيضا الفرنسية والإسبانية والبرتغالية والإيطالية). ولد صاحبنا بالصحراء, وتربي في كنف أسرة تعمل بسياحة السفاري/البرية. لم يذهب للمدرسة, وتعلم اللغات بالممارسة. عاش البربر/الأمازيغ عقودا طويلة من الإهمال بلغت عدم الاعتراف بهم كمواطنين. في العام2013, وعلي إثر الثورات العربية, نظموا مسيرات سلمية نحو العاصمة الرباط للمطالبة بحقوقهم. بالاعتراف بهم امتلكوا بطاقات هوية لأول مرة, أمكنهم الترشح للوظائف, كما لم يعد لباسهم التقليدي مصدر نفور من الآخرين. أيضا, اعتمدت الأمازيغية كلغة رسمية في البرلمان والمدارس, إلي جانب كتابة اسماء المصالح الحكومية باللغتين, العربية والأمازيغية, اللتين تشكلان مع الفرنسية ولهجات أخري اللغة المغربية الدارجة, الأمر الذي يرفع مستوي صعوبتها للوافدين حتي وان أمست اللهجة المصرية يسيرة تطرب أسماعهم. بالتمسك بعاداتهم وزيهم ولغتهم وثقافتهم في حلهم وترحالهم قاوم البربر فترات التهميش فظلوا نسيجا متميزا. يحترف الكثيرون منهم أعمال الزراعة والسياحة, بينما يضطر الرعاة منهم إلي الهجرة الدائمة طلبا للكلأ والماء, نطلق عليهم في مصر البدو الرحل كقبائل أولاد علي, بينما تعرفهم الأدبيات بلقب غجريGypsy. ولكن ليس كل أمازيغي غجريا, فقط الرحل منهم. لديهم قدرة علي ألفة المكان ويملكون لغة خفية خاصة تصلهم بمفردات البيئة المحيطة بهم, والقدرة علي استشراف المخبوء, تشعرهم بالأنس مع مكونات الطبيعة بخيرها وشرها, إنسها وحيوانها, جبالها وسفوحها. يتشممون الريح, فيقرأون الطقس. يفركون حفنة من رمل فتسر إليهم بمبتدأها وخبرها, الماء والكلأ والطريق, وموحا أحد هؤلاء الذين تربوا مع أفراد عائلته علي الفطرة, يناديه جده ذو المائة وأربعة عشر عاما باسمه البربري( حداش) ويعني أصغر أفراد الأسرة, حتي مع علمه بأنه استخرج مؤخرا بطاقة باسم محمد, وأن أصحابه يكنونه موحا.