لجأ الأسري الفلسطينيون إلي الإضراب مرة أخري هذا العام بعد أن يئسوا من مساندة العرب أو الغرب لقضاياهم العادلة, وجدوا في الإضراب الملاذ الأخير والخيار الوحيد لحل قضيتهم وفك أسرهم, وتعريف العالم بمأساتهم. تقاعس العرب كعادتهم عن نصرتهم وهم أسري بعد أن تقاعسوا عن نصرة الأقصي الأسير, ثم تقاعس الإعلام العربي عن ذكر إضرابهم والتعريف به ولو من باب ذر الرماد في العيون. كان يقال قديما الجوع كافر.. واليوم يهتف هؤلاء الأسري بشعار الجوع ثائر. يسعدني أن أتحدث عن البطون الخاوية للأسري الفلسطينيين التي هزمت الآلة الأمنية الإسرائيلية المسلحة وقهرتها.. وحققت رقما قياسيا في الإضراب لا يعرف معناه سوي أمثالي ممن قضوا سنوات طويلة في المعتقل. وقد جربت الإضراب عن الطعام في المعتقل مرات عديدة فوجدته شديد القسوة ويصاحبه ألم شديد وضغوط شديدة علي القائد من أجل أن يوقف الإضراب أو يعلقه. ويعد الإضراب عن الطعام أكبر امتحان بدني ونفسي وإنساني للسجين بعد محنة دخوله السجن.. إذ إنه يعد مباراة غير متكافئة علي الإطلاق بين سجين جائع قلق تغلق عليه الزنزانة وتمنع عنه الزيارة وبين سجان ممكن مسلح شبعان هادئ يعود ليلا إلي أسرته وأولاده يضحك بينهم ويمزح ويمرح.. فمن قواعد الإضراب الغريبة إغلاق الأبواب علي السجين ومنع الزيارة عنه.. حتي لو كانت مفتوحة قبل ذلك. وقد مكثت فترة في المعتقل قام فيها السجناء السياسيون بعشرات الإضرابات.. عشت فيها ومعهم آلامهم وجوعهم وأحيانا عطشهم. وفي الإضراب يضطرب القائد ما بين رغبتين أولاهما تحقيق أهداف الإضراب والثانية الشفقة علي أبنائه وتلاميذه والخوف علي تدهور صحتهم, أو أن يترك الإضراب مرضا مزمنا فيهم. ولذلك فإن الإضراب الجيد لا بد أن يكون معه تفاوض جيد.. وألا تقطع شعرة معاوية بينك وبين إدارة السجن وأن يكون له إعلام جيد خارج السجن وإلا فشل الإضراب وأضر بك وأعادك للخلف خطوات كثيرة. ومن أخطر نماذج الإضراب التي لا أنساها أبدا حالة أخ وصديق كان من جماعة الجهاد أضرب45 يوما متواصلة عن الطعام والشراب معا.. وكنت دائما أنهي الإخوة عن تطويل مدة الإضراب أو إضافة الامتناع عن الماء إلي الطعام للخطر علي الكلي والكبد. وقد نصحت هذا الأخ أن يفك الإضراب لخطورته علي الكبد والكلي دون جدوي. ثم قابلته بعدها بعام وهو يعاني من استسقاء وفشل كبدي.. وقال: يا ليتني استمعت لنصحك.. فتألمت له كثيرا. وفي كل الإضرابات الطويلة والتي جاوزت أحيانا20 يوما كنت أخاف علي صحة الإخوة.. وكنا نلجأ إلي أي جندي ليشتري لنا أي شيء نوزعه علي الإخوة خلسة.. وكنا نستعين بالصيام المتواصل فنتسحر بتمرة ونفطر علي الماء. وفي إحدي الإضرابات كانت تأوي إلي غرفتي قطة اسمها رزة وشقيقها عنتر.. وكنا مضربين وقتها فلم أجد لهما طعاما.. حيث إنني المصدر الوحيد لطعامهما.. فجاء جنود الحراسات بعدد من الأرغفة البلدية عند باب العنبر وانصرفوا لإحضار باقي مهماتهم.. فما كان من القط عنتر إلا أن خطف رغيفا وأحضره إلي في غرفتي ففرحت بذلك وكنت جائعا فأخذته منه وقلت له: يا عنتر اذهب وأحضر غيره.. فذهب سريعا وأحضر رغيفا آخر.. وكأنه يفهم ما أقول.. أو أن الجوع وهبه الحكمة.. فأعطيته بعضه وأكلت الباقي, مما أعانني علي المواصلة بشيء من الصبر. والغريب أن عنتر ورزة كانا من القطط المدللة لدي حامل القرآن العطوف حسن عاطف, الذي كان مولعا بتربية القطط. لقد جربنا الجوع وألمه في الإضرابات فكنا نشتاق إلي كسرة خبز أو قطعة من الجبن أو التمر. فتحية إلي هؤلاء الأسري من أسير سابق.. وتحية إلي كل من يساندهم.. وتحية إلي كل صابر راض عن الله وقضائه وقدره, مع دعاء من القلب أن يفرج كرب هؤلاء الفلسطينيين الذين بذلوا أعمارهم وضحوا بشبابهم من أجل تحرير وطنهم.