هناك تقديران للحالة الاقتصادية في مصر بعد الثورة: الأول متفائل للغاية ويري أن الأحوال المصرية في طريقها الي ازدهار وتقدم اقتصادي رائع. والثاني متشائم للغاية أيضا ويري أن البلاد في طريقها إلي الإفلاس الاقتصادي الشامل. والعجيب أن الصديق الدكتور سمير رضوان يتبني وجهتي النظر معا, حتي باتت لديه وجهة نظر متشائلة متشائمة ومتفائلة معا قوامها أننا في طريقنا الي الإفلاس ولكن هناك فرصا لكي تكون الأمور أكثر من طيبة. وجهة النظر الأولي تبدأ من النقطة التي تبدأ عندها كل الثورات, فقد تم القضاء علي نظام فاسد بل عميق الفساد, لم يفعل شيئا طوال ثلاثين عاما, وجعل الأغنياء أكثر غني والفقراء أكثر فقرا, ومن ثم فإن انهيار النظام وزوال أذنابه سوف يعني بالضرورة أن تكون الأحوال أفضل بكثير مما كانت عليه. ويكفي أن تختفي من الساحة الاقتصادية تلك الأسماء التي اعتدنا علي رؤيتها مثل أحمد عز أو محمد أبو العينين أو إبراهيم كامل أو يوسف بطرس غالي أو غيرهم من الأسماء اللامعة في عالم الاقتصاد حتي تصبح السماء أكثر صفاء والعالم أفضل حالا والاقتصاد أكثر تبشيرا بأن ماهو آت سوف يكون أفضل مما راح. المتفائلون لديهم دلائل لاشك فيها علي أن الأحوال طيبة أو بالتأكيد ليست سيئة رغم أن مصر مرت بظروف ثورة وهو مايعني في بلدان أخري كثيرا من الدمار والتدمير. وفي العموم فإن الثورة المصرية كانت سلمية وحماها الجيش, ورغم كثير من إغراءات الثورة فإن القانون والمؤسسة القانونية كانا هما المخرج للانتقال من النظام القديم الي النظام الجديد. ومما يدل علي حسن الأحوال فإنه رغم كل شيء فإن الانهيار المتوقع للجنيه المصري لم يحدث حتي ولو تراجعت قيمته فإن ذلك كان ماهو جاريا علي أي حال. وكذلك جري في البورصة ماجري للجنيه, فقد تراجعت نعم, ولكن لم يحدث لها حالة انسحاق كما تصور البعض, وحتي كانت البورصة آخذة في الارتفاع لولا بعض الأحداث المشئومة التي تسببت فيها فلول الثورة المضادة من أنصار النظام القديم. ولكن الثقة في المستقبل هي أبلغ حجج المتفائلين, فالصورة المصرية في الخارج تبدو براقة بسبب التحولات الديمقراطية المصرية, وفي ظل مجتمع بلا فساد, ويقوم علي الشفافية فإن ثقة المستثمرين الأجانب والمنظمات المالية الدولية لاشك أنها سوف تعطي لمصر بأكثر مما أعطت في الماضي بل علي نطاق واسع خاصة بالنسبة للعرب والمصريين في الخارج المنبهرين بالثورة المصرية ومنجزاتها. المتشائمون علي العكس يرفضون هذه الصورة الوردية, فرغم الثورة وبريقها الأول عندما قامت علي الشباب والدعوة الديمقراطية ومحاربة الفساد, فإن صورة أخري جديدة مالبثت أن ظهرت عن الثورة في العالم. فالصورة التي يقدمها السلفيون في الشوارع وعلي أبواب الكنائس وتجاه المرأة, واحتلال الإخوان المسلمين لمقدمة الساحة الثورية حتي أنهم باتوا يحددون النسبة التي سوف يفوزون فيها في الانتخابات من40 الي50% بل إنهم في الفعل نجحوا بالحق أو بالباطل في تعبئة الشعب المصري علي التصويت بنعم علي تعديلات دستورية كان الثوريون يرفضونها, وأخيرا الظهور الساطع لجماعات إسلامية كانت حتي وقت قريب تصنف ضمن الجماعات الإرهابية, كل ذلك أدخل الثورة تدريجيا الي صورة أخري غير تلك التي بدأت بها وتحب أن يراها العالم عليها. الأمر الآخر الذي يتجاهله الثوريون حتي الآن هو أن الحالة الاقتصادية المصرية الحالية, والسهلة نسبيا, تعود في جوهرها الي الاعتماد علي الاحتياطيات التي قام الاقتصاد السابق علي بنائها, وبينما كان يستعد لكي يصل بمعدل النمو المصري هذا العام الي5.8%. فالحفاظ علي قيمة الجنيه المصري من الانهيار كان نتيجة استخدام ستة مليارات من الدولارات التي سحبت من الاحتياطي المصري الذي كان قد بلغ36 مليار دولار في سابقة لم تحدث في التاريخ المصري الحديث. أما بالنسبة لأسعار السلع التي ارتفعت ارتفاعات حتي الآن معقولة فإنها هي أيضا ناجمة عن الاغتراف أولا من الاحتياطيات التي كونها النظام القديم فضلا عن استعداد الحكومة الحالية لكي تزيد نسبة العجز في الموازنة العامة حتي اقتربت من الحدود الخطرة أو ما يقرب من10% وهذه سوف يكون لها نتائجها علي الحالة المالية والاقتصادية المصرية. أما بالنسبة لحالة البورصة فإن تماسكها النسبي حتي عند مستويات منخفضة فهو يرجع الي الثقة التي لاتزال متبقية في أساسيات الاقتصاد المصري والتي أظهرها التقرير الدولي عن حالة السياحة في العالم ووضع مصر في المرتبة18 من حيث عدد السائحين و22من حيث الإنفاق السياحي, وكلاهما يعكس حالة الاطمئنان, والكفاءة, والبنية الأساسية الملائمة. أما النظرة المتفائلة الي الاستثمارات الأجنبية وحتي المصرية فإنها كالعادة تبدأ من حالة الاستثمارات علي الأرض وهذه ليست مبشرة علي الإطلاق علي ضوء توقف العديد من الاستثمارات عن العمل بسبب المطالب الفئوية المبالغ فيها أو بسبب الظروف الأمنية الصعبة التي تعاني منها البلاد. وببساطة فإن الحالة الانتقالية التي تمر بها مصر تدفع المستثمرين إلي الانتظار حتي تستقر الأحوال ويعرف المستثمر القوانين التي سوف يعمل في ظلها. ولايقل أهمية عن ذلك أن الظروف العالمية ليست مواتية, وعندما ذهبت الوفود المصرية الي الولاياتالمتحدة لكي تحصل علي10 مليارات من المنح كانت الإجابة بالنفي, فالعجز الأمريكي مخيف, وكان السؤال الأمريكي هو إذا كانت مصر في حاجة فعلا الي تمويل فلماذا لا تستخدم ما لديها بالفعل من تسهيلات مالية من الولاياتالمتحدة لم تستخدمها حتي الآن سواء كان ذلك من النظام القديم أو الجديد أيضا. أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي المنبهر بالثورة المصرية فإن اعتذاره واضح لأن لديه من بين دول الاتحاد من هو في حال إفلاس بالفعل وبلغت تكلفة إنقاذ البرتغال80 مليار دولار وهناك انتظار قلق لما سوف يحدث للاقتصاد الأسباني. مابقي لمصر حقا هو استثمارات المصريين سواء خارج مصر أو داخلها, وهؤلاء يحتاجون الاطمئنان علي مستقبل مصر, وأنها سوف تكون ديمقراطية ومدنية وآمنة بحق. وهناك الاستثمارات العربية أيضا, وهذه تريد من مصر دورا إقليميا لايقوم علي ثورة تمد يدها لأنواع من الثورات لا تحب كثيرا العرب والعروبة, وإنما ثورات تقوم علي السعي نحو الاستقرار وبناء نظام إقليمي يحمي الدول العربية من الذين يهددونها سواء أتي هذا التهديد من إيران أو غيرها. [email protected]