ينام أهالي مدينة الإسماعيلية ويصحون علي كابوس مزعج, وهم يشاهدون بأعينهم, تلك الجرافات العملاقة وهي تلتهم, في قسوة, مساحات كبيرة من حدائق الملاحة التاريخية, تلك الحدائق الغناء التي ظلت تمثل- ولا تزال- لأجيال عديدة, مرابع الصبا والشباب, وسجلا مفتوحا لتاريخ تليد, اختلطت فيه دماء الشهداء الذين سقطوا في معارك الشرف والكرامة بزهور الياسمين. الذين زاروا تلك المدينة الساحرة في الزمان الغابر, وتمتعوا بشواطئها الدافئة, وتلك المساحات الشاسعة من الحدائق التي تحيط بها من كل جانب, يدركون أكثر من غيرهم, كيف أثرت تلك الطبيعة الخلابة علي شخصية الناس إلي درجة التماهي, والذين تجولوا في شوارعها التي كانت نظيفة, قبل أن تنتشر فيها تلال القمامة, وتنفجر فيها بالوعات الصرف, وتغزوها الغربان من كل حدب وصوب, يعرفون سر وجود شجرة أمام كل بيت, حيث كان الإسماعيلاوية, ولا يزال الكثير منهم إلا ما ندر من الغرباء, الذين تدفقوا علي المدينة في موجات هجرة متتالية بدأت منذ الثمانينيات, يؤمنون إلي حد اليقين, بأنهم يعيشون في حديقة كبيرة, تفرض عليهم قوانين النظافة والنظام والجمال. لا شيء يبهج اليوم في الإسماعيلية, حتي حدائقها التاريخية بنخيلها الملكي وأشجارها التي يزيد عمرها علي مائة عام, وكانت شاهدة علي العديد من الأحداث العظيمة علي مدي قرن من الزمان, صارت في مرمي النيران, فها هي الجرافات التابعة لجهاز تعمير سيناء, تعمل بهمة لتقضي علي مساحات شاسعة منها, بزعم إنشاء طريق جديد, حيث يقول محافظ الإسماعيلية اللواء ياسين طاهر, إنه سيكون جزءا من محور جديد, تبلغ تكلفته نحو900 مليون جنيه, لا يعرف أحد له حتي اليوم أي ملامح, وهو ما فتح الباب واسعا أمام تكهنات, تقول إن هذا الطريق الذي يجري شقه بهمة غير عادية, أنشئ بالأساس لخدمة فندق عالمي كبير, يجري العمل علي بنائه منذ شهور في المنطقة المعروفة باسم جزيرة الفرسان, وهي المنطقة التي كانت, حتي وقت قريب, مقرا لإحدي الاستراحات الرئاسية, والتي شهدت, في نهاية السبعينيات, المفاوضات الأولي لاتفاقية كامب ديفيد, التي وقعتها مصر مع دولة الكيان الصهيوني. وأنت تقرأ هذه السطور, تواصل الجرافات عملها بهمة, وتهدر محركاتها بقوة, لتحول جزءا كبيرا ليس فحسب من تاريخ مدينة الإسماعيلية, وإنما منطقة القناة كلها, إلي أثر بعد عين, ولعلها الجرافات نفسها التي هدمت مطلع التسعينيات, قسم شرطة البستان, الذي شهد في عام1951 واحدة من أهم المعارك التي مهدت الطريق أمام جلاء القوات الإنجليزية عن مصر في18 يونيو من العام1956, بعد احتلال استمر لنحو75 عاما, عندما قررت وزارة الداخلية في ذلك الوقت, هدم المبني القديم, وإنشاء كتلة خرسانية ضخمة مكانه, تشغلها اليوم مديرية أمن الإسماعيلية, وقد بح وقتها صوت عشرات من المثقفين بالمدينة, حول أهمية الإبقاء علي المبني القديم, وتحويله إلي متحف لمعركة الشرطة, دون أن يستمع لهم أحد. ما يجري في الإسماعيلية هذه الأيام, ويستحق التأمل بعمق, ينسحب علي كثير مما يجري في مصر, وهو يأتي تاليا لمذبحة القصور والفيلات الأثرية التي تم هدمها بليل في الإسكندرية, علي مدي السنوات الأخيرة, ونهب العديد من المتاحف والآثار في مختلف ربوع مصر, وهي جرائم لا تقل بأي حال عن جرائم الإرهاب التي توليها الدولة الأهمية القصوي, فالاثنان يستهدفان, في حقيقة الأمر, محو جزء كبير من تراثنا الإنساني والحضاري, وتدمير ما تبقي من هوية وطن.