يظل الرئيس السابق جمال عبد الناصر الذي يمر يوم الاثنين المقبل99 عاما علي مولده حاضرا في المشهد المصري رغم رحيله بجسده عن عالمنا منذ56 عاما ونيف. حضور عبد الناصر أو استحضاره ليس مقصورا علي من يحبونه وأعدادهم كبيرة حتي بين من ولدوا بعد وفاته ولا خصومه الذين لا يزال بعضهم يخوض معركة دون كيشوتية مع الرجل أو بالأحري مع سياساته وكأنه لا يزال في سدة الحكم يدير الأمور. لكن هذا الحضور انتقائي من قبل الطرفين.. كل ينتقي من ممارسات الرجل وسياساته ما يدعم به وجهة نظره دعما أو دحضا. فالرجل علي سبيل المثال حاضر فيما تحتدم به الساحة السياسية حول تبعية أو ملكية جزيرتي تيران وصنافير وهل هما مصريتان أم وديعة سعودية لدي مصر. ومنسوب للرجل قولان يبدوان متناقضين في الاتجاهين. وقد تكون النسبة صحيحة في ضوء اعتبارات سياسية استوجبت كلا منهما. غير أن هناك جدلا آخر يحاكم بأثر رجعي بعضا من قرارات عبد الناصر الاجتماعية والاقتصادية في ضوء ما تمر به مصر في الوقت الراهن من ظروف اقتصادية صعبة ويحمل الرجل خطيئة ما تردت اليه الأوضاع الآن وأنه مسئول عن كل المعاناة التي يمر بها المواطن المصري. يتغافل هذا القول عن عمد طرح الظروف الداخلية والإقليمية والدولية التي حملت عبد الناصر علي اتخاذ ما اتخذ من قرارات والحكم عليها بمعيار زمانها وظروفها وليس بمقاييس ما طرأ علي الداخل والخارج من تغيرات وتقلبات خلال أكثر من60 عاما. فالإصلاح الزراعي وتحديد الملكية من وجهة نظر رافضي سياسات عبد الناصر بأثر رجعي كان كارثة أحوجت مصر التي كانت شبه مكتفية ذاتيا الي أن تمد يدها للي يسوي واللي ما يسواش لضمان بعض من أمنها الغذائي. والسد العالي كان أم المصائب لأنه حرم أراضي الوادي من الطمي والغرين الذي كانت تحمله مياه الفيضان كما أنه حرم مصر من أسراب السردين التي كانت متواجدة بوفرة عند التقاء مصبي النيل في دمياط ورشيد بالبحر المتوسط. وعبد الناصر مسئول عن تدهور قيمة الجنيه أمام عملات كل خلق الله من شرق وغرب حيث كانت بريطانيا مدينة لمصر عندما قام بثورته وحالة الجنيه الآن تصعب علي الكافر. وعبد الناصر كان يبحث عن مجد شخصي عندما أمم قناة السويس التي كانت ستعود الي مصر بعد12 عاما دون دفع تعويضات ودون التعرض للعدوان الثلاثي. والقطاع العام كان تكية السلطان حيث يأكل ويشرب التنابلة دون شغل ولا مشغلة مما أدي الي انتشار ظاهرة البطالة المقنعة. هذا عن بعض سياسات عبد الناصر الداخلية التي يحاكم عليها بأثر رجعي. أما سياساته الإقليمية والخارجية فحدث عن عواقبها الوخيمة بلا حرج من وجهة نظر منتقديه. قد يكون لبعض المنتقدين حق فيما يتعلق ببعض التفاصيل لكنه يكون من الغبن البين إغماض العين عن دوافع الرجل الاجتماعية والاقتصادية والتحررية. فلولا الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية لظل ملايين المصريين أقنان أرض محرم علي أبنائهم التعليم والترقي والذين هم وأبناؤهم وأحفادهم الآن لحمة هذا المجتمع وسداه. ولولا السد العالي لعانينا من سنوات الجفاف ولما عرفنا كيف يمكن مواجهة بعض آثار سد النهضة. عبد الناصر لم يكن مجرد رئيس لكنه كان زعيما وثمة بين الاثنين فرق كبير. الزعامة رسالة ودور وحلم وبقدر ضخامة وعظمة وسمو ذلك بقدر ضخامة الأخطاء أيضا فالزعيم ليس نبيا مرسلا لكنه ضمير شعبه.