من قال: إنه رحل أو غيبه الردي ؟!, لا إنه ذهب إلي هناك ولم يترك لنا عنوانا فهو يتواصل معنا ما دامت الحياة, ففي رحابة اللغة العربية نسمع أصداء صوته الرخيم الذي أراه أحد أجمل مقامات النغم الإنساني برغم وتر حزن قد زاده جمالا وعذوبة إنه لم يرحل لأنه جملة مفيدة في معجم( لغتنا الجميلة) واللغة لم تمت ولم ترحل ولن ترحل, إنه لم يرحل لأن أثير الإذاعة لم يتوقف ففي كل مساء نسمعه يشجينا ويعلمنا ويغوص في أعماق( الضاد) والقريض فيداوي الام النصب وعناء النهار ببيت من قصيد أو نادرة من قريض, وإذا كان اخر ما عنون به ديوانه:( الرحيل الي منبع النهر) فلعله كان وحيا سماويا وإشارات إلهيه ليرتوي من نهر كوثري في جنان الخلد عند مليك مقتدر جزاء لما كان يقدمه لبني البشر من علم وأدب وخلق والتزام فكم كان( الفاروق بن شوشة) حريصا علي عدم المشاركة في معارك ثقافية أو سياسية لأن موازين حياته العملية والشخصية لم تختل يوما أو بعض يوم, ولم يؤثر عنه ولو من باب الظن أن موجة من موجات تاريخنا الحديث جرفته أمامها أو معها, وكأني به أمام قول الشاعر: أحب مكارم الأخلاق جهدي/ وأكره أن أعيب وأن أعابا. وأصفح عن سباب الناس حلما/ وشر الناس من يهوي السبابا. ومن هاب الرجال تهيبوه/ ومن حقر الرجال فلن يهابا نعم, إنه( الفاروق) الذي صدقت فيه كلمات القائل: من عرف بفصاحة اللسان لحظته العيون بالوقار فكم كان صوتك( يافاروق) قاضيا يحكم بين المعاني فتطمئن لحكمك العقول والقلوب وإذا نطقت أجبت سائلا وإذا نظمت ازدانت بأشعارك المجالس!! أيها( الفاروق), كيف أستطيع عزاءك وأنا لم استطع أن أعزي نفسي فالفاجعة ليست ككل الفواجع والرحيل غير كل رحيل, فانفطرت القلوب وارتجفت النفوس والدموع من الأعين حيري من فرط الجزع فأنت( فاروق) لست كأي فاروق وأنت شاعر ليس كأي شاعر لذا عز الصبر وعز الدمع!! وارحمتاه لك فما أحوجنا إليك وقد كنت تداوي الامنا بعذب الحديث وتربط علي قلوبنا وقد ألم بنا الوجد والشجن فتسري عنا بمكارم البيان وروعة المعاني وإن من البيان لسحرا, لقد اثرت أن تكون( لغتنا الجميلة) موئلا للقريض والنثر والتاريخ, فكانت رمزا للفنون الجميلة وما أدراك ما الفنون الجميلة وهل يرتاب أحد أنها تصنع وجدان الأمم والشعوب وتسمو بالمشاعر وتهذب النفوس ولا شك أن قوام ذلك كله فصاحة الكلمة وبلاغة المعني ورصانة البناء والتركيب ومن أجدر من( الفاروق) علي امتلاك ناصيه البيان؟! لقد كان امتدادا لعمالقة الأدب العربي وفرسان البيان, أستطاع بما يمتلكه من الرزانة والتعقل وسمو الخلق ان يبتعد عن كل مهاترات الحياة الثقافية ومعاركها, فاستعصم عن الهوي الاجتماعي والسياسي فاسكنه الله مكانا سميا في الحياة متبرئا من المحاباة, فلم يكن بوقا كغيره, ولم يكن يوما في زمرة من قال فيهم سيد الأولين والآخرين( ص): لا يكن أحدكم إمعة يكون مع الناس إن أحسنوا أحسن, وإن أساءوا أساء. وليكن ما أراده الله سبحانه, وحسبي أنني( أعزي النفس عنه بالتأسي)!!.