لا تستطيع بريطانيا أن تعيش بدون معارضة حقيقة قادرة علي أن تشكل خطرا علي الحزب الحاكم وعينا مفتوحة علي أدائة لضمان ان يخدم مصالح كل البريطانيين. فأكبر أحزاب المعارضة في المملكة المتحدة, حزب العمال حاليا, هو, رسميا, معارضة جلالة الملكة, ودورها السياسي هو تحدي ومراقبة حكومة جلالة الملكة. ولذا فإنه ليس مستغربا أن ينشغل البريطانيون, سياسيا وإعلاميا, لفترة غير قصيرة مقبلة بشئون حزب العمال. للمرة الثانية خلال عام, يحصل زعيم العمال جيرمي كوربن, علي تفويض قوي من قواعد الحزب الأساسية بالزعامة وبأغلبية غير مسبوقة,61.8 في المائة مقابل38.2 في المائة لمنافسه أوين سميث, الوزير السابق في حكومة الظل العمالية المعارضة. قطع صندوق الانتخابات, إذن, الشك في زعامة كوربن بيقين صدقه قرار الناخبين. وبهذه النتيجة يحسم الزعيم, المؤمن إيمانا عميقا بأفكار اليسار, ما اعتبره انصاره مؤمراة يدبرها اليمينيون داخل الحزب بقيادة رئيس الوزراء السابق توني بلير, وخارجه لإسقاطه ودحر أفكاره, التي اعتبرها بوريس جونسون, وزير الخارجية في حكومة المحافظين الحالية اخطيرة للغايةب علي بريطانيا. هدف الزعيم المنتصر هو إجراء تغيير حقيقي في بريطانيا..الغنية بالأفكار والمواهب والإبداع... وإطلاق العنان لهذه الإمكانات, كما قال في إعلان قبوله قرار الناخبين. رغم الاختلافات الكبيرة داخل حزب العمال بشأن سبل تحقيق هذا التغيير, فإن هناك اتفاقا عاما علي أنه لا يمكن للعمال إنجاز هذا الهدف إلا بالعودة إلي السلطة. وتلك هي أزمة المعارضة العمالية الآن. رؤية كوربن وأنصاره تقوم علي أسس هي: السياسات اليمينية المطبقة حاليا, في الشئون السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية, والتي كان تبناها بلير من قبل للعودة إلي السلطة تضر بعموم الشعب البريطاني. تقوية الملكية العامة ودور الحكومة في القطاع العام والخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والمواصلات هي الحل الأمثل لأزمات البلاد الحالية. العدالة الاجتماعية مطلب شعبي محق وضروري ولن يتحقق إلا بدور وازن للدولة يضمن نظاما ضريبيا عادلا. لن تستطيع بريطانيا أن تضمن مكانة دولية إلا باتباع سياسات تعمل, بجهد حقيقي, علي تسوية الصراعات علي أسس عادلة منصفة بالوسائل السياسية والدبلوماسية وليس بالتدخل العسكري وبالحد من بيع الأسلحة والانتشار النووي, ومساعدة الشعوب المقهورة الفقيرة. هذه الأفكار باتت تشكل أسسا ل الكوربنية( نسبة إلي كوربن) في مواجهة البليرية( نسبة إلي توني بلير الذي لا يخفي عداءه السافر للزعيم العمالي الجديد) والتي طبقت من قبل أفكار مرجريت ثاتشر, رئيسة حكومة المحافظين السابقة, اليمينية, فأدت إلي توريط بريطانيا في حروب وصراعات خارجية( منها غزو العراق وأفغانستان) وسياسات اقتصادية داخلية( بيع القطاع العام وتقليص دور الدولة) لا تزال يعاني البريطانيون آثارها الضارة. بهذه الأفكار يظهر مدي صعوبة مهمة كوربن في ظل تنامي سياسات الليبراليين الجدد, المدعومة من رجال الأعمال وأصحاب المصالح والأثرياء والسياسيين اليمنيين, في الغرب عموما. الأصعب بالنسبة لأنصار الكوربنية هو إقناع المعارضين داخل الحزب بهذه الأفكار. فهؤلاء يرون أنه رغم أمانة وصدق ونقاء مباديء الزعيم المنتخب, فإن تبنيها يفقد الحزب القدرة علي إقناع الناخبين في أنحاء بريطانيا بإعادة الحزب للسلطة في انتخابات.2020 ومنطق هؤلاء هو أنه لو أن الاختيار بين المباديء, التي تراعي مصالح الناس, والفوز بالسلطة, حتي لو كان السبيل إليه هو التضحية بالمباديء, فإن الكفة تميل للثاني. وهذا التحدي هو الذي يواجه كوربن خلال الأسابيع القليلة المقبلة. وتقول المؤشرات إن الزعيم العمالي مستعد للحوار الدائم مع معارضيه لإقناعهم بأنه لا يزال ممكنا العودة إلي السلطة وفق برنامج يقوم علي مباديء يراها الوسيلة الوحيدة لاستعادة ثقة البريطانيين, والشباب خصوصا, في السياسة والطبقة السياسية في البلاد. ويأمل معسكر كوربن أن يتيح الحوار فرصة لتغيير مواقف حوالي175 نائبا, يشكلون ثلثي أعضاء الهيئة البرلمانية للحزب كانوا قد صوتوا لسحب الثقة منه قبيل إجراء انتخابات علي الزعامة. ويسعي الزعيم لإقناع النواب بمنحه فرصة لإثبات خطأ جونسون, الذي لا يزال يطمح في زعامة المحافظين عندما تفاخر بأن كوربن لا يشكل خطرا حقيقيا علي الحكومة.. لأنه يتبني برنامجا اقتصاديا يساريا يعود إلي السبعينيات خطرا للغاية. وأبدي أنصار كوربن مرونة عندما رحبوا, من حيث المبدأ, بمناقشة اقتراح معارضيه بسحب صلاحية تشكيل حكومة الظل المعارضة من يد زعيم الحزب وإعادة العمل بنظام انتخاب أعضائها كما كان الحال حتي عام.2011 أنصار إسرائيل يشكلون قوة ضغط شرسة علي كوربن, داخل الحزب وخارجه. ورغم تأكيد تحقيق سابق أن الزعيم لا يؤيد أية أفكار تعادي السامية, فإن اللوبي الإسرائيلي يصعد الضغط ويرفض أي تسامح مع مبادئ كوربن المناهضة للاحتلال الإسرائيلي لأراضي فلسطين والمؤيد لحقوق شعبها, خاصة في قطاع غزة المحاصر. ولا يبدو أن هناك, حتي الآن, فرصة لحل وسط لإرضاء هذا اللوبي الذي يرفض مجرد انتقاد أكاذيب إسرائيل وحملة أنصارها الإعلامية المبررة لانتهاكاتها للقانون الدولي وحقوق الفلسطينيين.