قال تعالي: والليل إذا عسعس(17) والصبح إذا تنفس(18) سورة التكوير. فذكر الليل بلفظ عسعس والصبح بالتنفس مما يدل من فهم المعاني علي الإعجاز القرآني في تلك الآيات... فالرسالات التي سبقت الإسلام ظهرت جميعا ثم اختفت ولما اختفت وانطمست معالمها طمت الجهالة في الدنيا كلها, فكأن الليل قد أصبح ثابتا; لذلك كان لابد من نهار يأتي ليذهب بهذا الليل وكلمة( عسعس) في اللغة كلمة معبرة; لأنها تتكون من مقطعين هما( عس عس) العين والسين والعين والسين, ومعني عس أي سار في الظلام ومنه العسس أي الذي يعس في الظلام ليس ماشيا علي هدي فهو يمد يديه كي يتعرف بها علي الأشياء. ونلاجظ أنه لم يقل والليل إذا عس فيه الناس, بل نسب العس إلي الليل نفسه, فالليل نفسه يعس, فكأنه لا اهتداء له, فنسب العس إلي الظرف, فإذا كان الليل في ذاته- وهو الزمن- هو الذي يعس, فكيف يكون حال الإنسان الذي يعيش فيه؟! وهذه هي بلاغة القرآن الكريم, فعندما نعطي الشيء صفة منتهي الخفاء فهي للملتصق به أشد وأقوي. فما دام الليل هو الذي يعسعس, فيكون الذي فيه أشد عسعسة منه, وذلك كما قال الله سبحانه وتعالي ضاربا مثلا للظلمة أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها سورة النور, فيده التي يعرف مكانها جيدا لا يراها, فما بالك بالشيء الذي لا يعلم موقعه جيدا, فأتي بأشد شيء التصاقا بالنفس ومع ذلك لا يراها. فيقول والليل إذا عسعس ثم يقول والصبح إذا تنفس وكأن الصبح من وطأة ظلمة الليل قد أرهق بالظلمة, ثم أخذ يتنفس, كأنه كانت مخمودة أنفاسه.