لم تكتمل عودة مصر, التي كانت مختطفة في ظروف غامضة ومؤسفة خلال العقود الثلاثة الأخيرة, سالمة إلي قواعدها كمنارة حضارية عالمية, إلا يوم السبت19 مارس2011, ليس لأنه شهد هذا التنظيم المشرف للاستفتاء علي التعديلات الدستورية ولكن لأنه أسقط المزيد من الأوهام التي جعلنا النظام البائد وذيوله نعيش فيها طوال السنوات السابقة.. فبعد أن أسقطت ثورة25 يناير المجيدة وهم خنوع المصريين وبلادتهم, الذي دفع بعض المفكرين إلي التساؤل عما حدث لهم, ووهم انقراض الطبقة المتوسطة وتلاشيها, ووهم تفاهة الشباب وعدم انشغالهم بأمور وطنهم, جاء19 مارس ليسقط وهم انعدام الوعي السياسي لدي المصريين, وعدم إقبالهم علي المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات. أثبت يوم الاستفتاء أن المصريين العظام, الذين علموا البشرية, لديهم من الوعي السياسي ما يفوق غيرهم, وأنهم كانوا يترفعون عن المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات خلال فترة حكم النظام المخلوع احتجاجا علي ما كانت تشهده من تزوير فاجر غير مسبوق في تاريخ البشرية.. وعندما أحسوا بل تأكدوا أن أصواتهم أصبحت لها قيمة, خرجوا رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا إلي مراكز الاقتراع في عرس حقيقي للديمقراطية والحرية, وليس في فرح العمدة المزيف الذي كان يقيمه المخلوع وأتباعه. وكنت قد اخترت الساعة السادسة مساء للإدلاء بصوتي, ظنا مني أن الزحام سيكون قد خف, إلا أنني فوجئت, لدي وصولي إلي مدرسة حدائق المعادي التجريبية المجاورة لبيتي بصحبة زوجتي وابنتي, بطابور طويل للرجال ومثله للنساء, وأصريت علي أن تقف ابنتي التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها في الطابور اقتناعا مني بأنها بذلك تحضر صناعة تاريخ سيظل محفورا في ذاكرتها طوال عمرها. كان المشهد مهيبا, وكان كل من في الطابور واقفين بسعادة وفخر, من دون تململ أو شعور بالتعب.. تبادلت أحاديث سريعة مع جيراني حول التعديلات, واتفقنا جميعا علي اختلاف أعمارنا وفئاتنا وثقافاتنا أن لب القضية لا يكمن في التصويت ب نعم أو ب لا, بل في إقبال المواطنين علي الاقتراع, وعودتهم للممارسة حقوقهم السياسية, ومشاركتهم في رسم مستقبل ومصير بلادهم.. أما أي تداعيات سلبية للنتيجة في الحالتين فمن الممكن تداركها فيما بعد طالما وجدت الآليات الديمقراطية التي تتيح تعديل المسار. وحدث أن مال علي رجل بسيط واقف خلفي, وسألني عما يجب أن يفعل, فشرحت له بسرعة التعديلات, وقلت له إنه من المفروض ان يدلي برأيه فيها, فعاد يسأل: يعني أعمل إيه يعني؟.. وقتها هيأ لي الشيطان أن أوجهه إلي التصويت ب لا مثلي, وأن أستغل بساطته في إقناعه بها, لكنني عدلت عن ذلك علي الفور, وفضلت أن أوضح له مزايا الموافقة ومزايا الرفض, وأترك له حرية الاختيار.. وهذا في رأيي هو الدور الذي يجب أن يؤديه المتعلمون والمثقفون إلي أن نقضي علي الأمية تماما. ورغم الزحام دخلنا المدرسة بعد دقائق معدودة بفضل النظام الذي فرضه المشرفون العسكريون والمدنيون, وبعد دقائق أخري أدلينا بأصواتنا, وخرج كل منا سعيدا, يرفع بفخر اصبعه المغموسة في الحبر الفوسفوري الوردي, ويريها لغيره, في مشهد حرمني النظام البائد منه طوال عمري رغم أنني شارفت علي الثالثة والأربعين! كانت بحق حاجة تفرح وجدتني بعد أن فرغت منها أردد: الحمد لله.. مصر رجعت, ومصر التي أقصدها هي الوطن الليبرالي الديمقراطي الذي اختفي بفعل فاعل, ليس فقط خلال فترة حكم النظام المخلوع, ولكن خلال حقبة ما يسمي بشرعية ثورة يوليو1952 كلها, والتي حاد خلالها حكامنا كلهم عن مبادئ الثورة, واختاروا عوضا عنها الديكتاتورية, التي لا تسمح سوي بحزب واحد ورأي واحد هو بالطبع رأي الفرعون. حمدا لله علي سلامة مصر, وسلامة المصريين, ومبروك إسقاط شرعية الفراعنة والمماليك وكل الطغاة.