أنا فتاة في الثالثة والعشرين من عمري تخرجت هذا العام بتفوق من كلية الهندسة... في سنوات عمري الأولي سافر أبي الطبيب إلي دولة عربية اصطحبنا معه إليها فقضيت بها طفولتي وصبايا الأول إلي أن حصلت علي الثانوية العامة فعادت أمي بي أنا وأخي الأصغر الوحيد لنكمل تعليمنا في بلدنا, ولم يستطع أبي العيش في الغربة وحيدا فلحق بنا بعد عامين والتأم شمل أسرتنا مرة أخري. لم تكن حياتي مثالية في محافظتنا المزدحمة التي عدنا للحياة بها, فقد داهمتني أعراض الاكتئاب بلا سبب وأصبحت أفضل العزلة حتي داخل بيتي, وازداد انطوائي في العام الأخير رغم تفوقي في دراستي الذي رشحني للعمل معيدة بكليتي... وفجأة استيقظت علي أسوأ كابوس من الممكن أن يصادفه إنسان: فقد استيقظت ظهر يوم جمعة علي مكالمة تليفونية تبلغني بمصرع أبي وأمي وأخي الوحيد في حادث سيارة أثناء توجههم لأحد المشاوير التي رفضت كالعادة مصاحبتهم فيها. سيدي هل تنتظر مني أن أصف لك مشاعري؟ أنا لا أعرف بماذا ولا كيف أشعر... أشعر بالذنب لأنني لم أكن معهم... أشعر بالتقصير لأنني كنت أعتزلهم كثيرا... أشعر بعدم التصديق لكل ما حدث... أشعر بأنني لا أستحق الحياة دونهم... أشعر بالرعب من الأيام القادمة... أشعر بالكره لنظرات الشفقة من حولي... إنني لا أريد سوي أن يتركوني أموت بهدوء, فهل سأعيش بكل هذه المشاعر ما تبقي لي من عمر؟ إنني مازلت أنتظر أن يوقظني أحد من هذا الكابوس الرهيب. ابنتي العزيزة يقول الله تعالي في محكم آياته كل نفس ذائقة الموت, وإني لأدعو لك الله أن يحفظك ويصبرك ويعينك علي آلام الفراق التي لا يعلم مداها إلا من جربها, لذلك فإني يا ابنتي استحلفك أن تحتسبيهم عند خالقهم, وألا تنجرفي بحزنك إلي بئر السخط والعياذ بالله فإنه يتملك الإنسان الضعيف والذي لا يقوي علي الرضي بمقدرات رب العالمين. من الواضح أنك إنسانة قوية تأقلمت بسرعة عند عودتك من الغربة, بل بالعكس تفوقت في دراستك معلنة للجميع أن العزلة التي فرضتيها علي نفسك وأبعدتك عن أسرتك رحمهم الله لم تكن نتيجة ضعف ولا استسلام ولكن أعتقد أنها كانت نتيجة عدم رضاك عن معاملتهم لك, أو ربما نتيجة اختلاف أفكارهم عن أفكارك, وهذا ما يفسر شعورك الحالي والذي يجعلك تأسفين علي الأوقات التي لم تكوني معهم فيها والعزلة التي حرمتك من لحظات أسرية كانت ستكون الآن ذكريات تؤنس وحدتك وتصبرك علي فراقهم, وهذا الشعور هو ما نطلق عليه الإحساس بالذنب والذي يعتبر من أسوأ المشاعر السلبية التي تصيب الإنسان, فخففي علي نفسك وإني لأؤكد لك أن الذنب ليس ذنبك أنت وحدك فهو خطأ مشترك يقع فيه أولا الآباء ومن بعدهم الأبناء عندما يتباعدون عن بعضهم البعض وتندر بينهم اللحظات والأوقات الجميلة والتي تكون بمثابة السلوي عند الفقد. ابنتي العزيزة انخرطي في عملك الجديد واجعلي منه رسالة تعلمين طلابك من خلالها القيم الإنسانية وتحضينهم فيها علي الترابط الأسري والتواصل الجيد والإيجابي بين الناس وفي محيط الأسرة, وعلي الأغلب أنك تقيمين الآن عند أحد أقاربك من الدرجة الأولي والذي إن شاء الله سيكون عوضا لك ومعينا علي الحياة, لكن نصيحتي لك أن تتعلمي مما فات وتبدأين في الخروج السالم من وحدتك وتحاولين الانخراط في حياتك الجديدة وسط أقاربك وأهلك الجدد واجعلي من وجودك بينهم السلوي للخروج من بئر الحزن والهم من مصابك الأليم, ولكي تتمكني من الاندماج في حياتك الجديدة عليك أن تبدأي ذلك بنية التسامح مع نفسك أولا ولا تجلديها ولا تعنفيها علي أي مما فات, ومن بعد ذلك تتسامحين مع أي من الناس التي تعتقدين أنهم ظلموك أو شعرت معهم بالقهر, ثم اطلبي المساعدة النفسية من متخصص يساعدك علي الخروج من حالة الحزن الطبيعية التي تمرين بها الآن لأن أعراضها قاسية جدا مثل:- -1 الإحساس بالخوف من المستقبل والذي قد يتطور ويتحول إلي نوبات هلع. -2 الاكتئاب نتيجة عدم الرضي عما حدث, ولماذا أصابك أنت دون سواك, والذي قد يتطور والعياذ بالله إلي السخط وعدم تقبل الواقع الذي حذرتك منه في مقدمة الرد. كان الله في عونك وأعانك علي مصابك وأخرجك مما أنت فيه بحوله وقوته, وأنا علي استعداد لتقديم المساعدة النفسية التي تحتاجين إليها حتي تعبرين أزمتك العنيفة بخير وسلام.