منذ زمن بعيد تحتضن فرنسا العديد من الجنسيات مختلفة الطبائع والعادات والتقاليد والعقائد بطبيعة الحال, الأمر الذي جعل نسيجها الثقافي والاجتماعي يتسم بقدر عال من الكوزموبوليتانية, وعلي هذا الأساس نالت شهرتها بوصفها واحة الحرية الأكثر جذبا في العالم, تلك السمة التي تبدو واضحة في مختلف المدن الفرنسية ولاسيما العاصمة باريس.. حقيقة الأمر أن الحكومات الفرنسية المتعاقبة استطاعت أن تؤكد الواحدة تلو الأخري احترامها لجميع الحريات مما جعل من الأراضي الفرنسية قبلة لكل عاشق لنسيم الحرية بغض النظر عن نوعها. ولكن يبدو أن ما تعرضت له فرنسا في الآونة الأخيرة من موجات إرهابية موجعة كان له أثره في تغيير بعض السياسات الفرنسية فيما يتعلق بممارسة الحريات حتي لو كان ذلك علي شاطئ البحر. حيث خرجت علينا وسائل الإعلام الفرنسية بما يفيد منع عمدة بلدة فيلينوف لوبيت الواقعة في منطقة الألب البحرية بمنطقة ألب كوت دازور ارتداء البوركيني علي شواطئها, ولمن لا يعرف فالبوركيني هو رداء للسباحة للنساء والفتيات العازفات عن ارتداء ما دونه من أردية. الواقع أن بلدة فيلينوف لوبيت بألب كوت دازور لم تكن الأولي في هذا القرار, إذ سبقتها إليه بلدة كان بفضل عمدتها دايفيد ليسنارد الذي أقر قانونا يمنع تماما دخول أي شخص لشاطئ المدينة بملابس سباحة لا تحترم التقاليد العلمانية للدولة الفرنسية, وتقرر فرض غرامة علي المخالفين تقدر بنحو43 دولارا. لم يخش لا عمدة كان ولا عمدة فيلينوف لوبيت أن يتهم بتهم العنصرية, ولكن ما اتخذه كلاهما من قرارات في هذا الصدد كان بهدف الحفاظ علي الهوية الثقافية والاجتماعية الوطنية. وهو الموقف الذي أرغب في تسليط الضوء عليه, حيث يثبت الأوروبيون والأمريكان دائما أنه حين يتعلق الأمر بثوابت هوياتهم فإنهم لا يتوانون في الدفاع عنها لأجل ترسيخها كأحد أهم مكتسباتهم. هنا بطبيعة الحال لا أود التعليق علي قرار عمدة المدينتين الفرنسيتين, فلكل دولة سيادتها علي أراضيها, وكذلك لكل دولة الحق في استصدار القوانين وتنظيم شئونها حسب ما يتفق وهويتها الثقافية, ما أوده في حقيقة الأمر هو أن تلقي مصر نفس المعاملة من غير المصريين, حيث نري ونسمع ونقرأ في مختلف الوسائط المعرفية من الأخبار والتصريحات والممارسات ما يعد تدخلا صارخا في عمل صانع القرار المصري وهو الأمر الذي نراه غير مقبول أو مفهوم. فنحن في مصر لا نملك التعليق علي قرارات رأت بعض المدن الفرنسية أنها تشكل جزءا من أمنها الوطني والمحلي, وهنا أقترح علي راغبي ارتداء البوركيني في المدن الفرنسية محل منعه, إما أن يتوجهن بطلب جماعي لعمدة هذه البلدة أو تلك بتخصيص جزء من الشاطئ يتمكنون خلاله من التمتع بالسباحة بالزي المذكور, أو أن تخصص إدارة تلك الشواطئ ساعات معينة يسمح فيها لأصحاب البوركيني بالاستحمام به بعيدا عن أعين بقية رواد تلك الشواطئ الذين قد يرون فيه تعديا علي هوية الدولة العلمانية وعلي كل حال فلا نستطيع هنا بأي حال أن نلقي باللائمة علي فرنسا أو علي ألمانيا التي قرر وزير خارجيتها منذ ساعات قلائل فرض حظر جزئي علي ارتداء النقاب في بلاده, فما اتخذه الفرنسيون والألمان من قرارات بصدد حماية مجتمعاتهم حق مشروع علينا جميعا احترامه وتفهمه. أستاذ مساعد التاريخ القديم بآداب الإسكندرية