النقلة المفاجئة للرئيس التركي أردوغان باتجاه توطيد العلاقة مع روسيا تربك الحسابات وموازين القوي في منطقة شديدة الأهمية والحساسية, فزيارة أردوغان لروسيا لم تكن لمجرد احتواء الآثار السلبية لحادثة إسقاط تركيا لطائرة السوخوي الروسية فوق سوريا, ولا مجرد تجاوب من بوتين لإلحاح الرئيس التركي علي لقائه فالاجتماع بحث إقامة مشروعات إقتصادية ضخمة, إلي جانب تطبيع العلاقات بين البلدين, وإنهاء المقاطعة الروسية, ومن أهم هذه المشروعات تمديد أنابيب الغاز الروسي إلي أوروبا مرورا بتركيا, والمعروف بمشروع السيل الجنوبي, علي حساب خط أنابيب الغاز عبر أوكرانيا, وهذا المشروع بالذات له دلالات سياسية واقتصادية شديدة الأهمية, فالغاز أصبح السلعة الأهم في العالم, بعد اتفاقية كيوتو المتعلقة بخفض الانبعاثات, والتي يعد البترول سببها الرئيسي, ولأن روسيا هي الدولة الأولي في انتاج الغاز, وأوروبا المستهلك الأكبر, فإن خطوط الغاز الروسية إلي أوروبا لها أهميتها الاستراتيجية للجانبين. كانت اتفاقية انشاء خط نابوكو في منتصف عام2009 في تركيا بمثابة اعلان حرب اقتصادية علي روسيا, لأنها تتتضمن نقل الغاز من وسط آسيا إلي أوروبا مرورا بتركيا, وتتجنب الأراضي الروسية, وتقلل من اعتماد أوروبا علي الغاز الروسي, لكن روسيا أحبطت هذا المشروع, ومع إندلاع أحداث ما يسميالربيع العربي ظهر مشروع لنقل الغاز من قطر إلي أوروبا مرورا بالمناطق المقرر اقتطاعها من العراقوسوريا, والواقعة تحت سيطرة تنظيم داعش. وهكذا يأتي إحياء خط أنابيب السيل الجنوبي من روسيا إلي أوروبا مرورا بتركيا لينهي تلك المشاريع المنافسة للغاز الروسي, كما يتخلي عن خطط روسيا بأن يتجنب المشروع المرور بالأراضي التركية, من خلال أنابيب تحت مياه البحر الأسود ومنه إلي أوروبا. أما مناقشة إنضمام تركيا إلي دول التكامل الأوراسي, عقب الاجتماع الذي ضم بوتين ورئيسي إيران وأذربيجان, فإنه ينقل تركيا خطوة أبعد عن أوروبا والولايات المتحدة, خاصة في ظل الأجواء الملبدة في العلاقات بين تركيا وكل من أوروبا وأمريكا بعد محاولة الإنقلاب الفاشلة, واتهامات صحف تركية لأمريكا بتدبير الإنقلاب, والأزمة بين واشنطن وأنقرة حول تسليم فتح الله جولن, المتهم الرئيسي بمحاولة الإطاحة بأردوغان, وتهديد تركيا بالغاء الإتفاقية المتعلقة بالحد من تدفق اللاجئين من تركيا إلي أوروبا, والمطالبة بمنح مواطني تركيا حق التنقل في أوروبا, وهو ما يزيد الأزمة تعقيدا بين أوروبا وتركيا. إن تلويح أردوغان بالتحالف مع روسيا, والابتعاد عن دول الناتو يؤدي إلي تغيرات مؤثرة علي الخريطة الدولية, وسيكون له انعكاساته المباشرة علي المنطقة العربية, حيث التورط التركي في أزمات سورياوالعراق وليبيا, ويشكل ضربة للمخطط الأمريكي في المنطقة, وسيعيد انتاج شبكة تحالفات جديدة, لكن هل يمكن لتركيا أردوغان أن تقفز كل هذه الحواجز والمشكلات الناجمة عنها, وتستدير بكل هذه الحدة والسرعة؟ إن الروابط القوية بين تركيا وكل من أوروبا وأمريكا لا يمكن التخلي عنها بسهولة, خاصة أن تركيا عضو بحلف الناتو, وبها قاعدة انجرليك المهمة, ولديها روابط اقتصادية قوية مع أوروبا, ولهذا يسعي أردوغان إلي توسيع مساحة مناوراته, وايجاد ظهير دولي وإقليمي في حالة تعقد علاقته بأوروبا وأمريكا, ليكون قادرا علي تحسين أوضاعه الصعبة داخل تركيا, وامتصاص ومواجهة الضغوط المتوقعة من أوروبا وأمريكا, خاصة مع سعيه إلي تغيير وجه تركيا, وتوجيهه ضربات قوية إلي المؤسسات الحامية للعلمانية, وفي مقدمتها الجيش والقضاء, مستغلا محاولة الانقلاب, ليقيم دولة حكم الفرد الواحد, ويقلص من نفوذ الجيش المرتبط بوشائج قوية مع الناتو, وهو ما يثير قلقا متزايدا من القفزة الأردوغانية وحدودها غير الواضحة, والتي سيكون لها ثمنها الذي ستستفيد منها روسيا, سواء في أزمة القرم أو المعارك الدائرة في سوريا.