بدت الشمس باهتة وهي تشرق ذلك اليوم, كما لو كانت حزينة أو مشغولة الفكر, أو ربما يكسوها حياء فأشعتها واهنة خجلي تبدد الظلام برقة وضعف لا يليق, علي كل حال إنه يوم جديد, والأهم أنه عيد ميلاده الأربعون, فقد مرت سنوات العمر كأنها حلم, وتفلتت من بين يديه, وهاهو ينظر إليها كأنها سحابة صيف, ما إن بدت حتي تبددت. أزاح متولي الغطاء عن جسده المتعب, نهض بهدوء وحذر, أنزل قدميه علي الأرض, جلس علي حافة السرير معتمدا علي ذراعيه, مالت رأسه إلي الأمام حتي لامست ذقنه صدره, حاول رفع رأسه فلم يستطع, كانت ثقيلة رغم أنه يشعر أنها فارغة تماما, تنفس بعمق واستكان, كان بائسا, فكر في مخرج, بحث عن الضوء في آخر النفق المظلم, لا شيء, داهمه إحساس بالعجز وقلة الحيلة, غامت عيناه وأغرقتها دمع أبية تعلقت بأهدابه, تخدرت ذراعاه اللتان تحملان ثقل جسده وبدأ يفقد الإحساس بهما, آلمته رقبته, جاهد ليرفع رأسه, استجمع قوته, فشل في تعديل وضعه, خذلته ذراعاه فانهار علي فراشه, تمدد علي ظهره وفرد ذراعيه علي طولهما, حدق في السقف المزين بشبكات العناكب, أغمض عينيه وبدأ يتنفس ببطء وانتظام, حلت عليه السكينة ولم يعد يشعر بشيء. قبل نحو عشرين عاما تخرج في كلية أصول الدين, حصل علي شهادته الجامعية الأزهرية وبدا طريقه محدد المعالم واضحا, سيلتحق بالتدريس في المعهد الأزهري مدرسا للمواد الشرعية, أو ربما يعمل واعظا بالأوقاف, سيصبح إماما وشيخا يشار له بالبنان, سيجد بنت الحلال, سيبحث عن ذات الدين, يظفر بها ويبنيان معا بيتا يقوم علي الحب والمودة والرحمة, وسيمتلئ بالبنات والبنين, يلعبون ويصخبون وتعلو أصواتهم, قد يشغلونه قليلا عن مواصلة القراءة والاطلاع, لا يهم سيجد وقتا لهم, ولن يقصر في وظيفته ولن يتواني عن طلب العلم. أحلام, والأحلام لا تعرف القيود, لكن الواقع شيء آخر, مرت الأيام والشهور, عام وراء عام, لم يتحقق حلم الوظيفة, لا بأس, هاهو يعمل ويكسب رزقه بما يتيسر, أعمال مؤقتة هنا أو هناك, يساعد والده في فلاحة الأرض, يعمل أي شيء ولا يبقي عاطلا, مرت السنوات وتبدد حلم الوظيفة الميري, اقترب من الثلاثين فقرر أن يحقق نصف الحلم الآخر, بحث عن الزوجة الصالحة وأكمل نصف دينه, ومرت الأيام متشابهة, ينغصها عدم وجود عمل ثابت لا في الحكومة ولا في القطاع الخاص, ويعادل الكفة نجاح زواجه واستقرار حياته الأسرية, لكن الأيام تخبئ له الكثير. ذات صباح شعر بآلام تعصر جسده, آلام في المعدة والمفاصل, تحامل علي نفسه وتجاهل الألم وسار في طريق الحياة معتمدا علي شبابه وفتوته, لكن الصباحات المفعمة بالألم تكررت, وخذله شبابه وأصابه الوهن والضعف, فقد شهيته للطعام وصار الغثيان والحمي رفيقين لا يتركانه إلا ليعودا إليه, أسرع إلي الطبيب يطلب الدواء, كاد يفقد صوابه عندما طلب منه الطبيب أشعة وتحاليل لوظائف الكبد, من معمل إلي مركز أشعة يحدوه الأمل ويقتله الخوف, قال الطبيب إن كبده معتل ولا يؤدي وظيفته في تخليص الجسد من السموم, وإن عليه أن يتناول علاجا دوائيا وأن يهتم بالمتابعة ويلتزم بالتعليمات, رفع رأسه إلي السماء وناجي ربه: رب, إني رضيت بقضائك, فأمر المؤمن كله خير, رب إني أسألك صبرا علي البلاء وشفاء لا يغادر سقما فأنت وحدك الشافي. تغيرت حياة متولي, لم يعد الشاب المقبل علي الحياة المملوء صحة وفتوة, ولم تعد نظرته للمستقبل كما هي, أخذ يفكر ويدبر كيف يؤمن مستقبل أسرته الصغيرة, أول شيء خطر في باله أن يوفر لهم سكنا, شقة صغيرة تؤويهم, بحث حتي وجدها, شقة في المشروع القومي لإسكان الشباب, لا تتجاوز مساحتها خمسين مترا, يرغب صاحبها, الموظف في الأوقاف, في التنازل عنها ليحصل علي شقة أكبر في مدينة السادات, ذهب إلي الرجل وتفاوض معه, وانتهي الأمر بأن يدفع متولي140 ألف جنيه نظير التنازل عن الشقة. لم يكن جمع مثل هذا المبلغ أمرا يسيرا, استغرق متولي وقتا طويلا حتي جمعه, فعل كل شيء, باع ذهب زوجته وحليها, أخذ نصيبه من ميراث أبيه, باع كل ما يملك, ثم استدان باقي المبلغ, وأخيرا دفع المبلغ كاملا وحرر عقد التنازل عن الشقة رقم1 بلوك32 بالمشروع القومي للإسكان, ملك صفاء عبدالحكيم أبو عوف, زوجة خالد نعيم الموظف بالأوقاف في يوم3/15/.2016 كاد متولي يطير من الفرحة, يشعر الآن بالأمن والاطمئنان علي أسرته في المستقبل, ورغم أن الشقة صغيرة, لا تتجاوز50 مترا, ومكونة من غرفة واحدة, وتحتاج إلي الكثير من الأعمال لصيانة السباكة والدهان وتجهيزها للسكن, ورغم أنه لا يعمل وينتظر موافقة محافظ المنوفية علي ترخيص كشك يتكسب منه رزقه وينفق من دخله علي مرضه, رغم كل شيء كان سعيدا يشعر بأنه أنجز شيئا ما وحقق نجاحا ولو صغيرا. لكن, يبدو أن الفرحة التي تأتي بعد معاناة وطول انتظار لا تكتمل, وهكذا فرحة متولي جاءت ناقصة, عندما ذهب إلي منطقة أوقاف المنوفية ليسجل التنازل وجد أن عليه أن يدفع40 ألف جنيه رسوما, يا الله! أربعون ألف جنيه, من أين؟ لقد وفر ثمن الشقة بصعوبة بالغة ولم يعد معه شيء يدفعه ولم يعد يملك شيئا ليبيعه, سأل: لماذ أربعون ألف جنيه؟ وجاء الرد المفحم من البيروقراطية المصرية العتيقة, قال المسئول: صدرت فتوي رقم730 لسنة2016, وأرسلت إلي المنطقة برقم1766 بتاريخ2016/5/24 لتحصيل20 ألف جنيه عن كل تنازل, ولأن شقة متولي بها تنازلان وجب أن يدفع40 ألف جنيه, وخلال أسبوع كما قال مدير المنطقة وإلا يتم سحب الشقة. متولي فهمي أحمد الشيمي, المتخرج في كلية أصول الدين, ولا يعمل في أي عمل حكومي أو بالقطاع الخاص, والمصاب بتليف في الكبد ويحتاج إلي علاج شهري مزمن يستنفد كل دخله, والذي قدم طلبا لمحافظ المنوفية لترخيص كشك يتكسب منه, والذي يرغب في تأمين مستقبل أسرته ودفع من أجل ذلك كل ما يملك ثمنا للتنازل عن شقة بالمشروع القومي لإسكان الشباب بالمنوفية, يناشد الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف حل مشكلة دفع40 ألف جنيه رسوما للتنازل, إما باستثنائه من الدفع, أو تخفيض المبلغ إلي الحد الأدني أو تقسيط المبلغ حتي يمكنه سداده, خاصة أن الشقة لا تستحق كل هذه المبالغ, فهي لا تزيد علي خمسين مترا, وتقع في بلوك به24 شقة مماثلة, وعقد التمليك الذي اشتراه ودفع ثمنه كاملا ليس فيه بند دفع20 ألف جنيه عن كل توكيل عند شرائه, فهل يتدخل الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف ويوجه بحل مشكلة رسوم التنازل بما يحفظ لمتولي شقته التي يراها حلم العمر وتأمينا لمستقبل أسرته الصغيرة, مراعاة لحالة متولي الصحية وظروفه المعيشية الصعبة.