لا ينفك الإنسان عن حالتين في الدنيا إما يسرا أو عسرا, رخاء أو شدة, غني أو فقرا, صحة أو مرضا, عطية أو بلية, فهو يشكر في النعمة ويصبر في البلية, وإذا صبر في البلاء تحول إلي عطاء, وتحولت بليته إلي عطية. ولذا فالإيمان نصفان: شكر وصبر. وقد سئل العلماء كثيرا أيهما أفضل الشكر أم الصبر؟ فكانت إجابتهم: الشكر مع العطاء يكون معه فرح وسرور وسعادة مما يجعل العبد يحب ربه ويقبل عليه أكثر, لكن الصبر معه ألم وكرب وضيق فيصبر وهو في ألم وهم وغم. وهل الذي يشكر ربه علي الحرية مثله كالذي يصبر علي السجن, وهل الذي يشكر ربه علي ولادة ابن كالذي يصبر علي فراق فلذة كبده, وهل الذي يشكر ربه علي الشفاء كالذي يصبر علي المرض العضال المزمن. الشكر معه حب وود وقرب من الله, ولكن الشاكرين قلة في كل الأوقات' وقليل من عبادي الشكور'لأن أصحاب النعم والأموال والجاه ينشغلون بهذه النعم عن المنعم سبحانه, بل قد ينسب بعضهم النعمة إلي نفسه واجتهاده وشطارته وذكائه, فيدور حول النعمة وحول ذاته وينسي المنعم الأعظم سبحانه واهب النعم كلها وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. وقد حدث هذا مع قارون حينما ذكره علماء عصره بنعمة الله وفضله عليه قال إنما أوتيته علي علم عندي, وكلمة عندي بالذات هي التي أضاعت قارون, كما أن كلمة أنا التي تدل علي الغرور والعجب هي التي أضاعت إبليس وهو القائل تحديا لله سبحانه وترفعا علي آدم أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين, وقد عاش فرعون مع النعم ونسي المنعم سبحانه أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي. وهذا الدوران المقيت مع النعمة هو السبب الرئيسي لقلة الشاكرين, أما الصبر فجزء منه شبه إلزامي وفيه يصبر من يعبد الله ومن لا يعبده. والفرق بينهما أن الأول يصبر ابتغاء مرضاة الله ويحمد الله علي ما ابتلاه به ويدعوه أن يرفعه عنه, أما الذي لا يعبد الله فقد يصبر جبلة وخلقة, ولو أن هذا الرجل وجه ذلك لله لكان له الأجر العظيم. والله سبحانه غني عنا ولا يريد منا سوي شكره علي نعمته, وهو لا يريد ولا يحب أن يعذب عباده في الدنيا والآخرة ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم. وقد تمر علي الإنسان حالتا الرخاء والشدة في يوم واحد فيتقلب في هذا اليوم بين عبادتين عظيمتين هما الشكر والصبر, فقد تحدث له حادثة سيارة وهو ذاهب لعمله فيصاب بكدمات أو جروح أو تتلف بعض أجزاء من سيارته, فيصبر ويرضي عن الله ويسترجع, ثم يعود إلي بيته فيجد أن ابنه قد نجح في الثانوية العامة وتفوق ليدخل إحدي كليات القمة فيشكر الله ويحمده, وبذلك يتقلب قلبه بين عبادتين عظيمتين هما الصبر والشكر, وقد يحدث ذلك في ساعة واحدة, فيضايقه أو يشتمه سفيه في الصباح وهو ذاهب لعمله فيصبر حتي إذا وصل العمل فوجئ بترقية أو منحة علاوة فيشكر. وعباد الله الصالحين عادة ما يتقلبون بين مراتب السراء والضراء وبين الشكر والصبر, وبين الصلاة تارة وقضاء حوائج الناس أخري, وبين واجبه كزوج أو رسالته كداعية إلي الله, وبين مسؤوليته كموظف ومسؤوليته كأب وراع للأسرة, وهكذا فالصالحون يتقلبون بين طاعة وأخري. ولكن لكل وقت عبادة والصالح هو من يعرف عبادة وقته وفرض عصره فيدرك أن الفرض في ليلة القدر القيام وفي نهار رمضان الصيام وحين يهجم الأعداء عن الوطن الدفاع عنه, ومؤانسة الضيف حين حضوره, والرحمة باليتيم إذا حضر. وهكذا لكل وقت عبادة, فيصبر حين الضراء كما قال الرسول صلي الله عليه وسلم للمرأة التي كانت تنتحب علي ابنها إنما الصبر عند الصدمة الأولي... ويشكر حين الرخاء, ويكون شجاعا عند لقاء الأعداء في الحرب, ويكون ودودا بين أهله وأصحابه وأصدقائه وأهل بيته, حازما وقت الحزم, لينا وقت اللين, فيلبس لكل حال لبوسها, وله في كل الحالات أجر وثواب. أما أهل الغفلة عن الله فالواحد منهم يغتر إذا وسع الله عليه, يشح بنفسه حينما تأتيه السلطة, وينسي ربه والفقراء حينما يصبح مليارديرا, وينسي أنه حينما ولد من بطن أمه كان عريانا لا يملك الثوب الذي يلبسه وسيموت كذلك. فأهل الغفلة لا يشكرون الله عند الرخاء ولا يعرفون إلا أنفسهم وذواتهم التي تتضخم كلما تضخمت سلطاتهم وكثرت أموالهم, وإذا أصابتهم مصيبة بمرض أو فقر أو حاجة أو سجن جزعوا جزعا شديدا, ولاموا ربهم دون أن يلوموا أنفسهم, وانطلقت ألسنتهم بالسخط علي الله وقضائه وقدره إن الإنسان خلق هلوعا* إذا مسه الشر جزوعا* وإذا مسه الخير منوعا* إلا المصلين.