في فيلمي حين ميسرة واللمبي يتفق الكل علي أن محاولات اللحاق بما هو حديث ومؤسسي مزيفة ومفبركة فساكن العشوائيات الذي يشبه الكثير من سكان مصر يتعامل غالبا مع مؤسسة وحيدة للدولة وهي البوليس وبجانب تلك المؤسسة هناك فضاء اجتماعي مفرغ من كل أشكال المشاركة فالأفلام ليست من صنع الاستعباد ولا الفوضي ولكن الوضع السياسي الذي جعل الناس راغبة في التخلص من كل معني ليعيشوا العبث الملائم لهذا الوضع هكذا رأت فيروز كراوية الباحثة في علم الاجتماع والأنثروبولوجي بالجامعة الأمريكية في كتابها الصادر مؤخرا بعنوان مباني الفوضي, سينما العشوائيات بين عقل طبقة وعقل نظام عن مكتبة مدبولي. والكتاب ترجمة عربية للدراسة التي نالت عنها فيروز درجة الماجيستير من الجامعة الأمريكية بالقاهرة, ومحوره دراسة عينة من أفلام السينما وعلاقتها بالسياق الاجتماعي الذي أنتجت فيه ولاحظت فيروز أن هناك علاقة تربط بين انتشار نمط معين من الأفلام التي تتناول سكان المناطق الفقيرة والعشوائيات وبين نظام تفكير يحكم علاقتنا كأفراد بالنظام الذي يحكمنا. وتأخذ الباحثة في كتابها نموذجين من الأفلام السينمائية التي أنتجت في العشر سنوات الأخيرة ولاقت نجاحا ورواجا وهما فيلم اللمبي الذي أنتج عام2002 وفيلم حين ميسرة عام2007, وعلي الرغم من أن صورا للفيلمين تحتل غلاف الكتاب الخارجي ما يوحي بأنهما موضوع الكتاب الرئيسي إلا أن كلا الفيلمين له امتياز نسبي داخل الدراسة التي تقدمها فيروز كراوية فهي تهتم بقراءة المجتمع من خلال الفن وليس العكس. وهدف الدراسة ليس القيام بتحليل فني للفيلمين ولكن دراسة العلاقة بين الدولة وافرادها وقراءة الكيفية التي يصبح بها العنف وغياب القانون خصائص أساسية لأداء الدولة والأفراد من خلال التمثيل الدرامي في تلك الأفلام التي تتعامل معها كوثائق اجتماعية. آليات القمع تشير الدراسة الي انه خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات تم اقصاء سكان العشوائيات عن الخطاب العام السائد واتفق الاعلام الرسمي والمستقل علي الحديث عنهما كتهديد محتمل للطبقات الوسطي وتم تقسيمهم إلي ارهابيين وبلطجية, كما تقول فيروز كراوية ولكن السينما لم تستطع ان تغفل المساحة التي احتلتها العشوائيات في الواقع خاصة مع ازدياد مستويات العنف والممارسات الفوضوية, وقد قدمت ظواهر السرقة والاجرام علي أنها ظواهر لا تحدث إلا في العشوائيات فقط في مقابل عنف مشروع من قبل الدولة ضدهم, وتفترض الكاتبة في نفس السياق أن المؤسسات التي يفترض أنها تقوم علي حماية المجتمع( الشرطة مثلا) شهدت انهيارا اخلاقيا مع اعتماد النظام علي مفاهيم تبيح استخدام القوة والعنف ضد الأفراد مع تقويض الحريات والممارسات الديمقراطية لضمان أمن وسلامة النظام وأفراده, فالنظام السياسي المصري في رأي فيروز كراوية احتكر القوي الاستعمارية وأعاد انتاج علاقة المستعمر والمستعمر ليلائم مواطنيه فتحول المواطن الي مجرد فرد هامشي داخل نظام اجتماعي تحكمه علاقات الخضوع والهيمنة حيث يصبح العنف هو الأداة المركزية للحكم في الدولة في ظل عجز الدولة عن تحقيق متطلبات مواطنيها وانهيار مشروع دولة الرفاه الاجتماعي مع بدايات حكم مبارك وتخلي الدولة عن التزامها الأجتماعي وهو ما استدعي استحداث نظام مبارك لآليات جديدة لإحكام سيطرته علي الحياة السياسية. وتشرح فيروز ذلك بالقول إنها لا تعني ان نظام مبارك كان أشد عنفا في ديكتاتوريته بل علي العكس كان أكثر تسامحا مع فكرة المعارضة ولكنه استخدم آليات جديدة تشمل التهميش وتجذير العنف المجتمعي دون الترويع الأمني فهذا يبدو أكثر فاعلية في عهد يبدو فيه الترويع الأمني عملا من القرون الوسطي علي حد قولها فإشاعة مناخ من الفوضي في المجتمع توفر الحماية للنظام فالكوارث الهائلة التي شهدتها مصر كانت نتيجة مباشرة في العديد من الأحيان لانعدام الكفاءة ولكن النظام جازف بانعدام الكفاءة لدي قياداته بصرف النظر عن قدرتهم علي إعادة إصلاح ما فسد لأن انعدام الكفاءة يتحول الي شرط لبقاء وقوة النظام حيث إن شيوع الفوضي في المجتمع يؤدي بالمجتمع إلي قبول أعلي بسيطرة النظام ويضعف الأمل في التغيير السياسي. السينما وتبرير العنف ضد العشوائيات يأتي فيلم حين ميسرة كتمثيل للدولة المصرية التي تحضر فيه بشكل مكثف, حيث تمارس الدولة عنفا يواجه بخضوع تام من قبل الأفراد, وهما ايضا يصوران ممارسات القوة والقمع علي أنها ممارسات لا توجد الا في المناطق العشوائية التي تسود فيها الفوضي وهو ما يكرس لعنصرية طبقية حيث ان المشاهد يعتاد علي العنف ضد تلك الطبقة كرد فعل طبيعي علي إجرامهم! ويكرس لدور الدولة ممثلة في جهاز الشرطة كحام للجماهير. وهو يأتي منذ الدقائق الأولي حاملا رسائل مرتبكة متناقضة. تقول فيروز معلقة علي فيلم حين ميسرة فبينما يحذر الفيلم من خطر العشوائيات تحمل اغنية التتر أوجاع ناسها العميقة, وتظهر العشوائيات في الفيلم كمكان غرائبي مليء بالعنف والمخدرات وعلاقات جنسية عشوائية وكأنه يعطي مبررا لخطاب الدولة الذي يبرر العنف ضد سكانها لضبط الانفلات وردع المجرمين, وتضيف فيروز ان الفيلم لقي نقدا من البعض وتعاطفا من جانب البعض الآخر ممن يحسون بالخطر علي مستقبل الطبقة الوسطي التي تحمل قيم المجتمع ولكن الفيلم وردود الفعل التي تتعاطف معه بنبرة متأسية علي حال الطبقة الوسطي التي تختفي شيئا فشيئا يحمل داخله احتقاراي دفينا للطبقات الفقيرة وتنصلا من قيمها وتستشهد بمقتطفات من مقال لضياء رشوان الخبير الإستراتيجي في تعليقه علي الفيلم كمثال علي تلك الحالة من التنصل حين قال انه من التقليدي أن يسود هذا النموذج الاجتماعي المنحرف والمشوه في الطبقات والمناطق العشوائية في قاع المجتمع ولكن أن يكون هو نفسه السائد في طبقاته العليا مع بعض التجميل والتنوع فهذا يعني أن المجتمع كله يتجه وبسرعة نحو الكارثة. وحسب الكتاب حمل فيلم اللمبي بداخله سخرية عنيفة من الخطاب الذي حملته الأفلام التي سبقته عن الطبقة الوسطي فظهوره كان ضد أخلاق الطبقة الوسطي والمتمسكين بها فهو شاب محبط لا ينجح أبدا في أي عمل يقوم به وظل في حالة من الفشل المتلاحق بدلا من تيمة الصعود والنجاح التي تتناولها أغلب الأفلام فهو يعيش حياة عبثية لا هدف وراء أي شيء يفعله, تحمل لغته منطقها الخاص وتشوهاتها الخاصة أيضا وكأنه يحاول أن يخترع خطابا موازيا للخطاب الأوحد السائد في دولة الحزب الواحد, هكذا تري فيروز, ولغته هذه لا تعطي انطباعا بالسخرية فقط ولكن شعورا بالمرارة من حياة لا معني فيها ولا إنجاز. ويمثل أداء اللمبي المبالغ فيه باستخدام حركات البطن والمؤخرة في الرقص والمشي والكلام والتي تمثل انتهاكا لما تعارفت عليه الثقافة المصرية التي تربط حركة الرجل بالاستقامة والتحفظ استخداما للجسد كوسيط رمزي لخرق علاقات القوي التي تتحكم فيه. ويحمل الفيلم داخل طياته عرضا للسلوك العنيف من جانب الجهاز الأمني المتسم حسب رأي الباحثة ب الوحشية والعشوائية في مواقف بعينها ضد الباعة الجائلين بينما يغيب الأمن في معارك بين السكان يستعمل السلاح الأبيض فيها بشكل عادي تماما, في اللمبي وحين ميسرة لا وجود للدولة بمؤسساتها ولكنها حاضرة بشكل متشظي من خلال عملائها, فهم الدليل الوحيد علي وجودها ولكن هذا التشظي في رأي فيروز لا يعني انه يسهل مقاومته بل في كثير من الأحيان يكون هذا التشظي لحضور الدولة وسيلة لتكريس فكرة عدم القدرة علي مواجهة الدولة فكلا الفيلمين يقدمان الإجراءات القمعية والسيطرة المتوحشة للدولة علي أنها من حقائق الحياة اليومية فالناس تمارس حياتها عبر تلك المؤسسات دون السؤال عن الطبيعة الوحشية لها, هذه الصورة تعيد إنتاج صورة الدولة ككل شامل مرة أخري يحيط بكل أفراده فكل حكايات المقاومة للجهاز الأمني داخل الفيلمين لا قيمة لها فالصورة النهائية التي يقدمونها تعيد انتاج أساطير القوة وتثبتها وتستشهد فيروز بتتر النهاية في فيلم حين ميسرة للدلالة علي ذلك فتتر النهاية في الفيلم يوجه فيه خالد يوسف شكرا خاصا لجهاز الشرطة الذي قام بتفجير الحي العشوائي منذ دقيقة واحدة وهذا مثال علي النظام المختل من المعاني في المؤسسة الرسمية والأفراد المندمجين فيها.