الشتاء يذكرني دائما ب المسائي محبوبتي التي أكملت عامها الخامس والعشرين.. التي يفوح منها عطر الماضي والحاضر والمستقبل.. ويولد الفرح العصي علي يديها من رحم الحلم الجميل.. وتتنوع إيقاعات موسيقاها مع سيل الذكريات. المسائي حكايتي.. وقصتي.. وأبيات شعر من دفتر عمري.. وصرخة ألم من ضميري.. ولمسة حزن.. وأحاديث الأطلال والنجوم التي ترويها بلابل البوح في صالة التحرير والديسك والغرف المغلقة والكافيتريا.. ومكتب رئيس التحرير.. ومع رفقاء سنيني وأيامي. المسائي هي النافذة التي أري من خلالها أنوار الصباح وهي تنكسر علي أجسادنا.. فتشربها أرواحنا كما المطر. المسائي هي حضن العائلة الدافئ.. وربيع العم.. وليل الألفة والحب والتقارب.. وأنيس الحالمين الهائمين بحب المهنة في بلاط صاحبة الجلالة.. جوانبها مسكونة بأنفاس البشر الذين ينتظرون غدا أجمل وأرقي.. ومكاتبها تنبض بذكريات الرومانسيين العاشقين للعمل والنجاح.. وجدرانها تحمل كفاح سنين اختلطت فيها حبات العرق في ليالي السهر برياح الرغبة في التطوير وامتلاك الموهبة والسعي نحو غد مشرق وجميل. المسائي ترنيمة عاشق تحت نافذة الحبيبة.. وقصيدة مهاجر من رحم الألم الي حضن الأمل..فأنا مازلت أشعر رغم العمر أنني مازلت أحبو في ربوعها. المسائي لوحة فنية منقوشة علي جدار الحياة.. صور.. وشعر.. وأغنيات.. في الليل طيف خيالها يغازل أحلامي.. وفي الصباح.. إشراقة وجهها تذيب كل أوجاعي.. وما بين الصباح والمساء.. أغزل من روحها كل آمالي.. أراك علي كل شيء علامة..إشارة.. شعاعا يسحب قلبي نحوك..فأهرب منك.. إليك.. يا ريحانة عمري.. مازلتي يا حبيبتي في قلبي سطورا.. أحببتك بالأمس.. واليوم.. وسأحبك في الغد.. إن جاء الغد. المسائي قصتي وقصتك.. حكايتي وحكايتك.. حلمي وحلمك.. بيتي وبيتك.. أملي وأملك.. فكلنا نهفوا للضوء والأنوار التي تشق أمواج العتمة.. فالمسائي هي روح وحياة.. زمان ومكان.. وأغلي ما فيها البشر. فصداقتنا تمضي وتزداد ويغمرها حب أعمي ضرير لا يعرف إلا الصفاء والنقاء والطهر طريقا.. وتمضي بنا سنوات العمل تحمل عمرا تهاوي كأوراق الشجر في الخريف.. ومبادئ ثابتة راسخة ستظل حتي آخر شعاع من شمس العمر. نحن جيل بقلب أبيض كالورد.. ونقاء الثلج.. ونضارة الربيع.. وجمال الروح.. وصفاء النف.. ورائحة الشتاء الجميل. فنحن جيل صنعنا أنفسنا بأيدينا.. حفرنا مشوارنا في الصخر.. وصعدنا الجبال.. ورأينا ما تشيب منه الولدان.. كنا التحدي لحظة الانكسار.. وكنا التواضع في لحظة الانتصار.. كنا الثبات في لحظة الانهيار. كنا الأقوي والأصدق في لحظة الاختبار.. كنا الأجدر في لحظة الاختيار.. ولم تغيرنا السنون.. ولم تعبث بنا الأيام.. ولن تفرقنا الطرق. خمسة وعشرون عاما مضت كانت تفصل بين عمرين.. عمر ميلاد المسائي الذي ولدنا من رحمه.. وعمر لحظة قاربنا فيها علي المشيب.. وما بين اللحظة الأولي حينما كنا هناك حيث كانت تشرق شمس91 من برد إحدي ليالي الشتاء.. وبين لحظة أخري كانت لنا أحلام.. ما بين اللحظتين ولد الفجر الذي أحيا فينا الأمل.. في كل هذه السنين ملايين الحكايا.. والأحداث.. والتجارب.. والذكريات.. فبين زمن مضي.. وآخر قادم.. عشنا الحلم والحقيقة.. الواقع والخيال.. لم تكن الطرق كلها ورودا.. كانت الأشواك تدمي القلوب والعقول أيضا علي حد سواء.. عشنا الزمن بالطول والعرض.. حلوه ومره.. ذقنا مرارة الأيام.. وتداعيات الزمان.. ومعاناة السنين.. عشنا الانتصار والانكسار.. نجحنا وأخفقنا.. عشنا الأفراح والأحزان.. تعرضنا إلي لحظات ضيق واكتئاب.. وشجن.. تساقطت من عيوننا دموع من قسوة الأيام.. وأحيانا أخري وصلت أعناقنا إلي عنان السماء من شدة الفرح.. عشنا واقعا واحدا وتجارب شخصية متعددة.. حفرنا في الصخر.. وحاربنا طواحين الهواء.. وبحثنا عن الأمل بين أحضان تلال الرمال.. عشنا ندور كالساقية. نكافح بلا انقطاع.. نلهث خلف قطار الحياة السريع. كنا بسمة طفل.. وأرضا بلا شوك.. عشنا بنصف فرصة.. ونصف أمل.. ونصف فرحة. تشابكت أحلامنا.. وآمالنا.. مع آلامنا عندما كنا نخطوا خطواتنا الأولي في صالة تحرير الدور الرابع.. كنا نحمل معنا تقاليد الماضي وتطلعات المستقبل.. نحمل بين أيدينا ظروفنا ومشاكلنا.. وينازعنا الأمل في أن يكون لنا مكان في هذا الصرح الكبير.. معظمنا جاء من أقاليم مصر يحمل بين ذراعيه غربة واغترابا ليخالط أهل القاهرة العامرة.. المكتظة بملايين البشر.. وكنا نخاف أن نتوه بين الزحام.. لكننا صمدنا.. وأخذنا نتلمس الخطي في زمن كانت الوساطة سلطانا جائرا وملكا ظالما.. وسيفا مسلطا علي رقاب العباد.. كان كل منا يحضن قهر زملائه بين ذراعيه عله ينزع منه قليلا.. وبفضل الله قهرناه. نحن جيل سرقت أحلامه ودهستها معاناة الحياة.. فلا نحن كنا مع جيل العمالقة العظماء الذين بدأوا.. ولا نحن مع جيل الشباب القادم من رحم التكنولوجيا والتقدم ويملك كل أدوات المعرفة السريعة.. نحن جيل الحلقة المفقودة بين مرحلتين.. لكننا لم نيأس.. قاومنا وتقدمنا ونجحنا.. وتعددت صفات جيلنا وزوايا جماله كلها جنات زهر ونهر.. فهو يملك الجينات الكاملة للنجاح.. ويملك الموهبة الخالصة.. ويملك سر الصنعة. انصهرنا معا امتزجت طموحاتنا.. ورغباتنا.. وآمالنا.. وأحلامنا.. وآلامنا.. وأحاسيسنا.. ومشاعرنا.. وتطلعاتنا.. وآهاتنا.. ونداءاتنا.. دعواتنا.. وأفكارنا.. امتزج كل ذلك في خلطة سحرية هي سر مذاق جيل المسائي الاشاوس الذي أتمني معه بقاء الروعة في أيامنا وزوال اللوعة من أحلامنا. فقد عشنا الحلم.. ولن ننساه.. ونتذكر جميعا عندما تشابكت أيدينا ونحن نمر بمراحل التعيين المختلفة.. وقلوبنا تكاد تتوقف خشية ضياع حلم الانتماء لمؤسسة الأهرام.. كنا وقتها الأحلي.. والأروع.. والأجمل.. والأنقي.. والأكثر تشابكا وحبا طوال سنوات هي أغلي ما في عمرنا.. وأحلي ما في أيامنا.. رغم سنوات الكفاح والمعاناة.. وأحيانا الظلم. كان لكل ذلك طعم.. ورائحة لم يزيفها شيء.. خلقت منا العشرة والظروف كيانا فريدا يقف ضد تغيرات الزمن.. وعواصف الأيام.. وسار كل منا الي غايته.. تقذفه الأمواج هنا أو هناك باحثا عن شاطئ يرسو عليه.. كبرنا.. ومرضنا.. لكن يداعبنا الشوق والحنين بين لحظة وأخري لاسترجاع ذكريات الماضي.. عندما كنا براعم تكسو وجوهنا البريئة ملامح الطفولة.. فالماضي دائما يشدني إليه بجمال ذكرياته.. وحلاوة أيامه.. وبراءة أفعاله.. وعزف ألحانه.. ورقة أحلامه.. إنه ينادينا جميعا.. فنحن بلا استثناء باحثون في الماضي.. سائرون نحو الذكريات التي عشناها.. التي تذكرنا بزمن الطفولة الحالمة.. عندما كنا نتقاسم معا رغيف الخبز.. أو كوب الشاي.. أو أن نتبادل الملابس في المناسبات.. أو أن نسير عشرات الكيلو مترات لتوفير بضعة قروش.. كنا نتقاسم فعلا حلو العيش ومره.. ومآسي الحياة وفرحها.. وطول الأمد.. وبعد الطريق.. وقسوة الظروف.. ووهج الحياة.. كنا نتجاذب أطراف الحياة بالمحبة والمودة.. ونحطم صخرة الكراهية بالعشرة.. ونتراشق بأزهار المحبة. نتذكر حينما كنا نتدفأ من برد الشتاء القارس بمشاعر الحب والترابط.. عندما كانت جيوبنا خاوية.. وقلوبنا عامرة.. وعقولنا متفتحة.. كنا كالثوب الأبيض الذي لم يعبث به الزمن ويعكر صفو أيامه. وأنا أسترجع شريط الماضي.. أتذكر وجوها قد فارقتنا.. مازال صدي أصواتهم في أذني.. وملامحهم تملأ عيني.. وأحس بأنفاسهم تلامس وجهي.. وستظل ذكراهم خالدة لا ينساها عقلي.. فسلام عليهم أينما كانوا.. وأعيش الآن مع رفقاء دربي الذين أحبهم.. فهم ظلي وسندي يزيلون عني الغربة.. ويشعرونني بالاطمئنان. لكن السؤال الآن.. هل25 عاما أثرت فينا؟ نعم.. فلقد حفرت ثقوبا داخلنا.. فقدنا جزءا من رومانسيتنا.. وعفويتنا.. وطفولتنا.. وبراءتنا.. ونقائنا.. وهدوئنا.. وحناننا. طبيعي.. بحكم السنين والظروف والبيئة المحيطة التي تحمل كل أنواع الألم والشقاء.. فما عشناه كفيل بهدم جبال الصفاء والنقاء والبراءة.. والاتزان النفسي.. والأخلاقي.. طبيعي أن تأخذنا الحياة كرها.. أو أن نذهب إليها طوعا.. لكن غير الطبيعي أن نظل في حالة خصام.. خصام مع النفس.. وخصام مع الآخر.. فهل فقدنا ثقافة التعايش؟.. هل نحن في حاجة الي أن نغتسل من تلوث البيئة ونطهر أنفسنا من شوائب علقت بنا دون أن ندري؟.. من جراثيم وميكروبات بيئة انحط ورخص فيها كل شيء.. البشر.. الأرض.. والعرض.. هل ننتصر ونعود لعصر البراءة.. عصر الزمن الجميل.. أم نغرق في مستنقع الأنا.. والذات.. والعداء مع الآخر بسبب وبدون سبب.. هل نعود الي الماضي ليدفعنا الي المستقبل.. أم نظل كما نحن.. لايتبقي لنا سوي ذكريات تختلط فيها الابتسامة بالدموع؟. الحقيقة الوحيدة التي يجب أن نتمسك بها.. اننا هنا.. قادرون.. قادرون علي أن نعود.. وشمسنا لن تغيب.. قادرون علي تحريك رواسب الماضي التي كست الذاكرة.. قادرون علي إزالة أكوام الشوك.. إذا حسنت النوايا وعاد عصر الوئام. ورغم مرور الأيام التي التهمت أعمارنا.. مازلنا نتمسك بخيط الأمل.. ونحتفظ بخط العودة.. مازلنا نكتب أسماءنا بحروف الصداقة والمحبة.. ونرسم ما تبقي من ذكرياتنا الجميلة علي رمال شواطئ بحر مستقبلنا.. ونمسح أمواج الدموع من عيوننا التي ذرفتها أحيانا شوقا ومحبة.. وأحيانا خوفا وألما. لكن عمرنا لن يضيع.. وحبنا وصداقتنا محفورة علي جدار القلب وفي الذاكرة.. وأحلامنا لن تنتهي.. ففي كل يوم لدينا فجر جديد يولد فينا ونعيش فيه.. يشرق بنوره علينا.. يفجر فينا الإيمان بأن طريقا طويلا من الصعاب والكفاح والنضال.. سوف يتوج بالنجاح. نقاء صوتي الصافي.. وطائر أحلامي يناديكم: علي أي عتبة نقف؟.. كيف ننظر إلي سنوات العمر التي ولت وأصبحت ذكري ولن تعود؟.. وكيف ننظر الي سنوات أخري قادمة لا ندري سيتسع بروازها لنا.. أم نصبح ذكري أيضا لمن يأتي بعدنا؟ وأخيرا.. لن يحميني من فراغ فؤادي بحبكم سوي المواظبة علي أن أحلم بكم كل ليلة.. وأتذكر معكم كانت لنا أيام.. وكانت لنا أحلام.. وكانت لنا أحزان.. وكانت لنا حكاية مع المسائي ستظل خالدة ما بقيت الحياة.