الأولي مدينة الإسكندرية..عروس البحر الأبيض المتوسط..والتي أحيانا توصف بلؤلؤة البحر الأبيض المتوسط. تلك أيام قد خلت..فهي الآن شمطاء البحر الأبيض بلا منافس..كانت مثل برشلونة فأصبحت زبليونة. والثانية هي مدينة بيكرنج في شمال إنجلترا..مدينة متواضعة ومتوسطة الجذب السياحي في مقاطعة شمال يوركشاير. كلتاهما قديمة..الإسكندرية بناها الإسكندر الأكبر عام331 قبل الميلاد..والثانية بناها الملك بيريدوروس عام270 قبل الميلاد..تقريبا بنيت المدينتان في نفس الوقت..من أجل هذا التشابه التاريخي وتشابه ما حدث هذا الشتاء..أعقد المقارنة: الأولي أكبر وأجل..وأهم تاريخيا وأعظم..عاش فيها المصريون والأجانب قبل الجيل الحالي وكانوا واعين بجمالها وحريصين علي الحفاظ عليها. لم تعهد المدينة من قبل أكوام الزبالة التي صارت وكأنها أهرام متكررة كل بضع أمتار في شارع الكورنيش والشوارع المهمة الأخري. كانت بها بالوعات صرف لمياه الأمطار كل بضعة أمتار..عندما كانت تأتي النوات والأمطار الغزيرة في ميقاتها..كانت تصرف بيسر وتغسل الشوارع فتصير أكثر جمالا وبهاء. عاش فيها الأديب العالمي إي.إم.فورستر خلال سنوات الحرب العالمية الأولي متطوعا في منظمة الهلال الأحمر وكتب خلال إقامته كتابه الرائع:الإسكندرية: تاريخ ودليل سياحي,1922.. وأعيد طبعه عام..1935 يعتبر الكتاب أجمل دليل سياحي في العالم طبقا لمعظم النقاد..وهو من الكتب النادرة حاليا في طبعتيه الأولي والثانية..لا عجب في ذلك فهو أديب عالمي معروف..إضافة لعشقه للإسكندرية..كتبه بحب عبر جولاته في أزقتها و شوارعها ومتاحفها ومن خلال بحثه عن كل ما يخص المدينة من تاريخ وطبيعة وأدب. أصبحت الإسكندرية الآن رغم كل عظمتها مرتعا للزبالة والمسالك الشائنة..نموذجا للخراب والإهمال من المواطنين والمسئولين علي السواء..وكأن رحيل الأجانب عنها هو الذي أصابها بهذا الهوان والاضمحلال والخراب كما نري جميعا هذه الأيام..وكأننا..ونحن أصحابها في مسابقة لتدميرها تدميرا تاما..وكأننا فصيل آخر غير الجنس البشري. هذا الشتاء..تعرضت كلتا المدينتين لهطول أمطار غزيرة غير معهودة..تعرضت الإسكندرية لأمطار غزيرة في الخامس والعشرين من أكتوبر..غرقت في تلك الأشبار..واختلطت الزبالة بالماء فصارت خليطا مرعبا لم تعهده الدنيا من قبل..وتعطلت كل صور الحياة..وكثر النواح..والنقد للمحافظ ورؤساء الأحياء..اكتشف الجميع أن كل البالوعات مسدودة..والمحليات لم تؤد دورها..وقفلت المدارس..وتعطلت الدواوين والمصالح..وكثرت الشكاوي.. واستقال المحافظ..وعندما جفت المياه..رجعت الأمور لسابق العهد من الإهمال..فلم تبدأ المحليات القيام بدورها المنوط بها..وتمنع الزبالة وتعاقب ملقيها..وتصلح البالوعات..وتزيد أعدادها..فتكررت المأساة..وسالت الأمطار والزبالة..وتكرر الموال.. وكثرت الخسائر والشكاوي. أما في بيكرنج البريطانية.. عندما هطلت الأمطار في آخر ديسمبر..في أعنف فيضانات شهدها شمال إنجلتر منذ سبعين عاما وكأنها فيضان نوح.. لم يكثر السكان العويل والنوح.. وبقيت المدينة جافة ولم تسبب لها الأمطار أية أضرار فادحة وظلت المدينة وكأن مطرا لم يهطل عليها أبدا لم ينتظر السكان المحليات أو المحافظ بل: اجتمعوا قبل حلول الشتاء بمدة كافية تمكنهم من الاستعداد لمواجهته مع أساتذة متخصصين من جامعتي أوكسفورد ونيوكاسل والذين كانوا يتوقعون هطول أمطار غزيرة طبقا للتقارير العديدة والمنذرة بذلك نتيجة التغيرات المناخية ونتج عن ذلك الاجتماع توصية ضرورة بناء167 عائقا بها ثقوب في طريق الأمطار الغزيرة ومسارها تسمح بالتسرب البطيء للأمطار الغزيرة الفائضة كالأنهار من التلال في مخرات السيول والبالوعات إضافة الي بناء مخزن يمكنه استيعاب حوالي120 ألف متر مكعب من المياه. تم فعل ذلك قبل سقوط أمطار ديسمبر المدمرة علي شمال إنجلترا. كل ذلك كلف مدينة بكرينج حوالي2 مليون جنيه إسترليني فقط. وكانت بيكرنج الوحيدة التي ظلت جافة والفيضانات حولها مغرقة للآخرين. إن في التجربة البكرنجية لعبرة للإسكندانية. الجامعة البريطانية في مصر