خلال الأسابيع الماضية دارت علي مرأي ومسمع من الجميع عبر الشاشات اشتباكات بين عدد من مقدمي البرامج بعضهم البعض, وبينهم وبين بعض السياسيين وغيرهم, ولم تخل الاشتباكات من خروج عن اللياقة وتنابزات بالمواقف ومعايرات, هي في حقيقتها فاضحة للوعاء الذي جمع هؤلاء, وكان آخر تلك الاشتباكات إذاعة فيديوهات للنائب البرلماني خالد يوسف في أحد البرامج, بكل ما يحمله نشرها من معان لا تمت للشرف والنخوة والمهنية والعمل الإعلامي من الأساس بصلة حتي ولو كانت صحيحة, ولا يمكن تفسير هذا الواقع سوي بأنه صراعات سياسية قذرة وتصفية حسابات, كما أنه يوحي بأن خناقة كبيرة تدور رحاها عند قمة المجتمع, وهذه الخناقة تعكس صراعات أكبر, تتصل خيوطها بجهات تشحن الصراع بمعلومات سرية واختراقات لجوانب من الحياة الشخصية للأفراد, وأظنها صراعات تضعف من ثقة المجتمع بنخبه وبذاته وتقلل من قدرته علي مواجهة التحديات. وبخلاف تلك الحادثة فإن المتتبع للاشتباكات الفردية والجماعية علي المستوي الوطني سواء داخل المؤسسات أو علي مستوي الأفراد بصفتهم من ضمن النخبة السياسية والإعلامية, سواء الاشتباكات الظاهرة منها إعلاميا أو المتخفية خلف الأبواب المغلقة, لا يمكنه سوي الجزم بأنها ذات طابع انتهازي فردي, وأنها لا تمت للصالح العام بصلة, وأنها تنتهك كل الحرمات, وهذا السلوك غير المنضبط بأي رادع قانوني أو أخلاقي في حقيقته يعكس انحطاطا ينسحب من حالة الأفراد والمؤسسات والنخب ليشمل واقع المجتمع بكامله, وليس أدل علي ذلك من غياب أي وعاء قانوني أو مؤسسي يمكن أن يمنع بث هذا البورنو المتصل. والخطورة أنه في اللحظة الاستثنائية التي يعيشها المجتمع بين الأمل في القدرة علي الصمود في وجه التحديات الداخلية المتراكمة والمعقدة, والرجاء في القدرة علي الإفلات من الفخ الإقليمي الذي وقعت فيه أكثر من دولة, وتفسخت عري مجتمعاتها, ووقعت فريسة للعنف وأصبحت علي مشارف الضياع, نجد الجهود علي الساحة السياسية والإعلامية تحول المجال العام لسوق لكل رخيص من التدافعات اللاأخلاقية والانتهاكات لحرمة الأفراد والمجتمعات, وذلك بديلا عن التعامل مع تعقيدات اللحظة الراهنة بقدر من المسئولية وبقدر من الوطنية, حيث يتغافل الإعلام عديد المشكلات والتحديات التي تعيشها مصر, ويتجاهل فتح النقاش العام حول السلبيات وأسبابها والبرامج والمعالجات وأساليب المواجهة, كما يفترض أن تقوم به تلك النخب السياسية والإعلامية. وهنا تفرض أسئلة نفسها علي هذا الواقع المتردي, وهي: هل هم نخبة تستحق أن تتصدر المشهد؟ وهل يمكن أن نثق فيها ونثق في حرصها علي سلامة المجتمع وصيانة قيمه والدفاع عن مصالحه؟ وهل يمكن أن تصل بنا تلك النخب إلي بر الأمان؟ أم أنها جزء من ماكينة تفرغ المجتمع من مصادر قوته وتسهم في إضعافه وإلهائه عن مواجهة حاضره البائس ومستقبله الغامض؟ فضلا عن أنها نخب كرتونية انتهازية تدين بالولاء لجهات مصالحها متناقضة دون أدني اعتبار لمصالح المجتمع وأهدافه؟. لاشك أن أي أمة في طور استعادة مسار النهضة بحاجة إلي بناء وعي حقيقي, ووسائل الإعلام لديها مسئولية رئيسية في بناء هذا الوعي وتشكيله, وجميعنا يري أن إعلامنا يهدم ولا يبني, يفرق ولا يجمع, نعم المجتمع واقعه بائس ونخبته شديدة التواضع وشحيحة الإمكانيات, لكن دور الإعلام لا يجب أن يصدر لنا أسوأ ما في المجتمع, بل المساهمة في معالجة كل ما هو سيئ, وطرح بدائل, لكن أن يصدر لنا هذا التشبيح والاستباحة والعزف النشاز المنفرد لبعض الأبواق المنكسة لكل همة, والمدمرة لكل قيمة ما هو إلي تدمير ذاتي لوطن يبحث عن مخرج في لحظة استثنائية.