بين جنون الوعي بالذات وإهدار الوعي بالآخر, وبين تلك الرمزية المستلهمة وذلك الهبوط المحتوم تمثلت الفجوة الكبري بين الكيان الأمريكي والأطراف الكونية , وظلت تتسع بفعل هواجس شريرة تحركها وتدفعها- في طيش- نحو معني أثير هو ابدية السيادة حتي لو أفرغت الكرة الأرضية من البشر! وتلك هي من أضغاث الحلم الأمريكي الذي طوق الشعوب والأنظمة بأهوال تفوق الطاقة والاحتمال طيلة قرون, بل جر كتائب الدمار وأشعل آلة الحرب التي لا تهدأ وذكي الخلاف وحاك المؤامرات وإستبد بالرأي وأشاع الفتن وإختلق الأكاذيب وصاغ فنون الحيل ومارس طبائع العداء وإنفرد بالسلطة الكونية عنوة وأحكم قبضته علي عنق الحقائق السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والثقافية ترويضا وطمسا وتلفيقا وتحطيما. وهو ما يتطابق مع ما أوجزته رؤية المفكر الأمريكي براندون مارتينز من أن المؤسسة السياسية الحاكمة في واشنطن قد مارست نوعا خاصا من التدليس علي الحقيقة والتاريخ منذ الحرب العالمية الثانية وحتي بدايات هذا القرن. ولعل الكيان الأمريكي قد دأب طويلا علي أن يصنع من ذاته أسطورة خالدة لا تماثل.. اسطورة تحظي بقيمة تفسيرية فائقة تقدم عددا من الأدوات لفهم الحاضر وأخري لإستقطاب المستقبل وشكل في ذات الآن شفرة خاصة تجعل فوضي الوقائع والأحداث متسقة خلالها, ذلك حين إتخذت من التسارع الوحشي سبيلا لمسار التطور التاريخي, فكان جراء ذلك تلك التمزقات الحادة في البنية الثقافية والمعرفية والاجتماعية في المحيط الدولي, وكذلك تفكيك آليات التضامن والتكامل التي تحكم الجماعة الانسانية بأسرها, من ثم فقد إندثرت أبعاد المشروع الانساني الأعظم! وبات ضحية أسطورة يخامرها الهوي بالخلود. نعم إن من فضائل الأسطورة تعارضها مع أسس الإستدلال المنطقي, إذ تقوم بمزج الواقع التاريخي بتصورات مجسدة لخوارق الأفعال, من ثم يكون صمودها حائلا منيعا بين حقيقة الوقائع ومقتضيات المعرفة, لذا فانها تعد الاستراتيجية الأمثل في نقل اللامعقول إلي دوائر لغة المعقول! ولقد إنبثق عن فكرة الأسطورة تلك وترسخها شيوع عقيدة مونرو التي كرست لمبدأ عام هو أن الامبراطورية الأمريكية هي الأكثر صلاحا وتقوي من الامبراطوريات الأخري وإن مسئوليتها الاستراتيجية الأساسية انما هي توسيع نطاق الحرية وتحقيق الخلاص للبشر أجمعين, لذا فقد مارست باسم تلك العقيدة حقها المطلق في أن تسود النصف الغربي للكرة الأرضية, وضرورة إطلاق تلك المشروعات الدموية التي يتصدرها مشروع حدود الدم المستهدف تفتيت العالم العربي الاسلامي وتقسيمه دويلات علي أساس ديني مذهبي وطائفي أو مشروع يوم القيامة الأمريكي الذي كشف أسراره بيتردايل سكوت والرامي الي حتمية الهيمنة الأمريكية علي العالم والعالم العربي بشكل أخص ذلك بقوة السلاح وسطوته وحروب الارهاب وبشاعتها, أو قصص الحروب السرية فيما وراء البحار ضد شعوب العالم الثالث كافة, تلك التي فضح تفصيلاتها توم انجيلهارت في كتابه( حكومة الظل) أو مايسمي بالحروب القذرة في الشرق الأوسط التي أشار إليها جيرمي سكاهيل أو الاعتراف المرير لأوباما بضرورة استبدال شاكوش البنتاجون( القوة العسكرية) بالمشرط القذر للعمليات السرية. وأي غرابة أن تكون تلك الممارسات الجنونية هي نتاج الواقع الأمريكي المعاصر وقد إنطلقت جذورها من الماضي السحيق ممثلة في جماعة( العظام والجمجمة) التي شكلها وليم راسل والتي كانت تحمل إسم( اخوان الموت) وقد إنحصرت مبادئها وأهدافها في ذلك المعتقد الصارم المنطوي علي الحق في السيطرة علي الشئون العالمية وتيسيرها حسب الهوي الاستراتيجي تأسيسا علي أن فكرة العنف ممثلة بشدة في فطرة العقل الأمريكي وهو ما أكده بول جوزيف واتسون في كتابه( النظام من قلب الفوضي).