إذا كانت مصر هي أم الدنيا, فإن أوروبا هي أم الاستعمار. وإذا كانت اوروبا لغزا, ففي مصر مفتاحه الذي يفك طلاسمه ويكشف اسراره, والبحر المتوسط قائم بيننا تحكي امواجه علي مسامع الزمان قصة ما بيننا وبينها من صراع, نحن امة حضارة, وهي ماكينة استعمار, جاءنا يونانيا, ثم رومانيا وثنيا, ثم انقلب رومانيا مسيحيا, ومن بيزنطة وحدها سواء كان اسمها القسطنطينية المسيحية ام اسطنبول الإسلامية, استمر الاستعمار مرة باسم الصليب واخري تحت راية الهلال العثماني الاحمر, ثم بدأت موجات التنافس الاستعماري الحديث من هولندا والبرتغال واسبانيا وفرنسا وبريطانيا والمانيا وايطاليا. واكتب لكم هذه الكلمات, من شارع الجلاء بالقاهرة حيث المعني واضح, تخليدا لذكري رحيل آخر استعماري اوروني عن بلادنا. انا لست ممن يصدقون شعارات السياسة الأوروبية فهي دائما براقة وجذابة ومهذبة, وإنسانية غير فجة وليست مباشرة. انا ممن يبحثون عن مصلحة اوروبا وراء كل شعار ترفعه وليس شرطا ان يتطابق مضمون المصالح مع مضمون الشعارات بل في الأغلب بينهما تناقض شديد جدا. اوروبا هذه الأيام ترفع شعار حماية المسيحية في الشرق الأوسط. احلف بالله انها كذابة. هذا الشعار, بدأت أوروبا ترفعه في السنوات الأخيرة, من العقد الأخير, من القرن الحادي عشر الميلادي, حين انطلقت ما عرف باسم الحروب الصليبية من جنوبفرنسا ومن قلب أوروبا وغربها لانقاذ المسيحية في الشرق ولاسترداد بيت المقدس من الكفار, كان هذا هو الشعار. اما المصلحة فكانت محاولة للخروج من ازمات اقتصادية وفوضي اجتماعية وتوترات سياسية كلها طاحنة وعاصفة. والدليل علي ذلك, ان هؤلاء الصليبيين, بدأوا بإخوانهم في الدين, بدأوا بالمسيحية الشرقية, وتمروها وخربوها ونهبوها وسفكوا دماءها وهم في الطريق إلي الشرق الإسلامي. اذن الدين لم يكن هو الدافع, الدين كان شعارا اما الدوافع فكانت مصالح مادية اقتصادية وسياسية واجتماعية. أوروبا الآن, في حالة أزمة خوف علي الهوية يجعلها تتورط في قضايا بسيطة مثل النقاب, مثل مآذن المساجد.. قارة خائفة علي نفسها.. ازمة تركيبة اجتماعية فأعداد المسنين وأصحاب المعاشات تتزايد والقوة الشبابية العاملة تتناقص.. الحيوية السكانية تميل إلي النضوب.. العنصر البشري غير قادر علي التكاثر والتناسل.. الرغبة الغريزية في الاستمرارية في التاريخ وصلت إلي حالة من الزهد أو الانسداد أو الملل أو الكسل بمعناه التاريخي. شعار حماية المسيحيين في الشرق الأوسط يخفي وراءه أزمات ومصالح.. فماهي؟ نستكمل غدا