منذ أن أدركه الوعي وصار قادرا علي التمييز بين الأشياء والفهم والقدرة علي تفسير ما يدور حوله من مجريات وأحداث.. وجد نفسه دون عمد أو قصد متأملا ومندهشا من الكرسي المرتفع قليلا أو ربما خيل اليه ذلك الارتفاع عن بعض الكراسي المحيطة به.. كراسي أبيه المتصدر لمائدة الطعام والكل ملتف حوله والعيون شاخصة جاحظة تستجديه أن يرسل بإشارة البدء.. لا أحد يجرؤ أو يستطيع المجازفة بالبدء بتناول الطعام إلا بعد قيام الأب بأداء كامل طقوسه المعتادة... رفع أكمال الجلباب إلي أعلي.. المرور علي الوجوه وجها وجها.. للاطمئنان علي استمرار العمل بميثاقه الحياتي والذي ارساه دون أن يفكر بإجراء أي تعديلات مواكبة لتغيرات العصر والأيام عليه, من المؤكد أن كل الأجداد كانوا كذلك!!.. ثم البسملة بصوت عال جهوري ومد اليد والإمساك برغيف من الخبز وقطع شريحة صغيرة منه ثم الإيماءة بالرأس أن ابدأوا.. حينها يندفعون لتناول الطعام ولكنه اندفاع حذر هادئ غير مسموح علي الإطلاق بأي صخب أو ضوضاء.. يندفعون للطعام وهم آمنون تماما لا خوف عليهم أبدا مادام الميثاق ساري المفعول والأمور تسير علي رتابتها المعتادة.. ثم هناك الكرسي الهزاز الذي يحلو للأب الجلوس عليه عند اقتراب الشمس بالمغيب بشرفة المنزل وهزه أماما وخلفا مغمضا عينيه وفتحها بين الحين والحين بتلقائية وعلي فترات منتظمة.. ارتشاف بعض رشفات من كوب الشاي أو القهوة أو نوع من العصير, حسب الحالة المزاجية له!! تجد دوما ابتسامة رضا تعلو أسارير وجهه تزداد دوما حينما يتفحص الوجوه من حوله.. ولا خروج علي النص الذي وضعه لحياته ولمن يدور بفلك هذه الحياة من زوجة وأبناء وربما إخوة له اعتادوا الملاذ اليه.. دون إرادة وجد نفسه يتساءل.. هل مجرد الجلوس علي هذا الكرسي يعطي الحق لكل هذا؟! بل وصل به الأمر حين الخروج ليلا لقضاء حاجته او لتجرع جرعة ماء أن ينظر شاخصا لهذا الكرسي متخيلا أن الأب مازال قابعا عليه لا يغادره أبدا( كيف له ان يترك السلطة).. اعترف بأيام اخري لزملائه المقربين انه فعلا كان ومازال يرهب هذا الكرسي سواء كان فارغا أو ممتلئا بجسد أبيه!!.. بل بأحيان كثيرة كان يهمس لحاله.. هل يمكن أن يأتي اليوم الذي يحتم علي أن آخذ الاذن منه.. يقصد بالطبع الكرسي.. حين رغبتي بفعل أمر من الأمور؟! وكان بأحيان يتسحب ويقترب منه علي مهل ويمرر يديه عليه ويحتضنه ويغمض عينيه حالما بأن يكون مكان أبيه, يهمس.. أن هذا قادم بالتأكيد ولكن متي.. الله أعلم.. وإن كان يتمناه قريبا جدا.. ولكن كان يفيق من حلمه سريعا ويهز رأسه هزات عنيفة سريعة هامسا.. لن أكون مثله أبدا.. لابد أن أكون مغايرا لنهجه وميثاقه.. أن أعطي للكل مساحة للحرية والبوح والفضفضة.. الحرية المقننة دون فوضي والتي تتيح لي التعرف أولا بأول علي مجريات الأمور دون تجميل أو.. زيف!!.. يعاود الهمس.. مؤكد أن هذا الأمر ليس ببعيد!!.. وحينما ذهب للدراسة بكل مراحل التعليم كان أيضا لايدري سببا لإصراره الملح لقضاء كل الأوقات المتاحة بين الحصص أو المحاضرات للف والدوران حول حجرة المسئول الأول الذي يعتلي الكرسي الجلدي الفاخر وراء المكتب الكبير العملاق وحوله كل محتويات المؤسسة التعليمية مدرسة أو جامعة من بشر يحيطون به جالسين وواقفين.. دوما الصوت عال ومتهدج وتعليمات وأوامر ونواه وملاحظات.. كلها تعليمات وتعليمات وتساؤلات لاتجد لها إلا اجابات مقتضبة مبتورة متقطعة يجد المستمع صعوبة شديدة للإمساك بها والوصول لجملة مفيدة.. معظم الأحيان تتصاعد الأمور وتصل لحد التلعثم الشديد ولأن يتصبب العرق غزيرا من كل المسام.. وحينما يلوح لهم بيده بالانصراف.. تخرج الأصوات الحبيسة والهمهمات واللعنات المكبوتة دوما داخل الصدور! بتوالي التأمل والاندهاش ترسخ لديه أن الكرسي المرتفع والمتصدر هو السلطة وإملاء الإرادة علي الجميع.. وأن من يعتليه يحول كل من حوله إلي عرائس( ماريونيت) لاحول لها أو قوة.. يجيد الامساك بخيوطها.. يحركها وقتما شاء وكيفما شاء!! من داخله حلم أن يغير من سيطرة الكرسي واستبداده.. يتذكر انه صرخ ذات ليلة.. أبد.. أبدا لن أكون شبيها أو وريثا للميثاق الذي لم يتغير وإذا تغير فلزيادة السيطرة.. أبدا.. أبدا صحا من حلمه علي صوت صديق له يربت علي كتفه.. يقول ساخرا.. قلت آلاف المرات.. لن أكون شبيها.. لن أكون مثيلا.. لن أجعل أي كرسي مرتفعا عن البقية.. لن أكون وريثا لأحد.. لن أؤدي نفس الدور ونفس الطقوس ونفس الميثاق ولن أمسك بالخيوط.. سوف أحرر الكل من خيوط عرائس( الماريونيت).. سوف أسمع.. سوف أحاور.. سوف.. سوف.. ولن أكون.. ولن أكون.. ولكن ياصديقي مازال العرض مستمرا لليلة الأولي بعد الألف أو بعد المليون.. أنت مثل أبيك.. ومثل من تعاملت معهم علي مدار أيامك ولياليك.. أبوك مازال متصدر الكرسي.. مازال متشبثا به.. ومازلت تحلم.. واحلم كما تشاء.. وربما يتحقق الحلم المستحيل يوما ما وربما لا يتحقق مادام أبوك والمسئول عنك بعملك متشبثين بالكرسي إلي أن يقضي الله امره..( متي؟.. الله أعلم!!) وعلت وجه صديقه ابتسامة كبيرة جدا وساخرة جدا جدا.. ثم أعطاه ظهره منصرفا تاركا اياه يحلم أو بالأدق يعاود الحلم من جديد ربما يتغير ويستطيع الهروب من الكرسي والخروج من عباءته.. وجد نفسه يمد يده إلي إناء مياه كامل ويصبه إلي جوفه الملتهب الجاف صبا.. وأنهار العرق الغزير تنهمر من كل مسامه.. خرج إلي صالة المنزل شاخصا إلي الكرسي متهاويا إلي كرسي آخر.. يأخذ رأسه بين يديه هامسا يبدو أن لا مفر ولا مهرب ولابد من استمرار سريان مفعول الميثاق وسريان مفعول سلطة الكرسي!! أحمد طايل طنطا