انتهي الأستاذ علي علي الألفي الموجه بالتعليم من تحقيقه واعادة صياغته لأسفار التكوين المصرية القديمة والمعروفة باسم الجبتانا عام1988, وتأخر نشر هذا النص اثنين وعشرين عاما وبقي في حوزة صاحبه حتي نشرته أخيرا دار روافد للنشر والتوزيع القاهرية. والحقيقة أن الأستاذ الألفي كشف خبيئة نادرة, لأن النص المنشور يرجع تاريخه علي الأقل لقرنين من الزمان, وظلت النسخ الموجودة منه مكتوبة بالديموطيقية( احدي مراحل تطور اللغة المصرية القديمة), ثم بالقبطية, محفوظة هنا وهناك حتي وصلتنا نحن الأحفاد بعد مئات السنين. الجبتانا علي النحو الذي قدمه المحقق تشير الي أنه الأصل المعتمد والوحيد الذي نقله العبرانيون الي كتبهم المقدسة, وعلي الأخص أسفار العهد القديم, ودون أي مبالغة شوفينية, يعد هذا النص أحد أهم تجليات الضمير المصري الذي ملأ العالم نورا, واستمدت الرسالات التالية له كل إرثها تقريبا من فيضه, فلم تكن صيحة عالم الآثار الشهير برستد حول فجر الضمير من فراغ. أما رحلة الجبتانا من منابعها قبل آلاف السنين, فليست غريبة فقط بل فاتنة أيضا ومصرية بامتياز. حسبما حكي الأستاذ الألفي أنه تعرف في منتصف أربعينات القرن الماضي علي الأب أبيب النقادي واتخذه وهو المسلم معلما وعريفا له( هكذا كانت مصر القبطية المسلمة في الماضي فهل نستعيدها؟!). وكان الأب أبيب رائدا لمجموعة من مثقفي المنصورة في تلك الأيام من المسلمين والاقباط من بينهم الشاعر علي محمود طه والاستاذ جودت والد الشاعر صالح جودت, ووالد المحقق الأستاذ محمود الألفي مدير دار المعلمين والخواجه باسيلي عبده أحد المزارعين الكبار وغيرهم وغيرهم. ولأن الأب أبيب بلا أسرة ترعاه اختار أن يقيم لدي والد المحقق وعمدة الريدانية, وهو من مواليد ستينات القرن التاسع عشر, وكان الأب يتمتع باحترام خاص ليس بسبب سنه فقط, بل أيضا لإجادته لعدد كبير من اللغات ولقراءاته المتنوعة والموسوعية. ويؤكد الأستاذ الألفي أنه كان بمثابة الابن الوحيد للأب أبيب, وقرأ بتوجيهه معظم ما في مكتبته لمؤلفين ومفكرين وعلماء كبار مثل داروين وشبلي شميل وموليين دراسين وطه حسين وعلي عبدالرازق والسنهوري وغيرهم. وعندما سأله الأستاذ الألفي من أنت, أجابه الأب أبيب: أن حالة هيليستنية.. فأنا قبطي مصري من نقادة.. وأمي كاترين من أسرة يونانية كانت تقيم في المنصورة.. وأرضي حبك للاستطلاع فأزيد: أنني نشأت شماسا في كنيسة ما في صعيد مصر حيث كان للأسرة مطعم صغير في احدي محطات السكك الحديدية.. سافرت الي اليونان وايطاليا والشام والسودان والجبل الاسود بيوغوسلافيا ويضيف أنه خدم في كنائس عديدة في جنوب السودان واوغندا والحبشة, وتوثقت صلاته بعدد كبير من علماء الآثار الأجانب مثل برستد والمصريين مثل سليم حسن وسامي جبرة بك وكمال باشا وغيرهم. كل هذه المعلومات ضرورية في حقيقة الأمر لأن الأب أبيب لعب الدور الأساسي في الحفاظ علي الخبيئة حتي وصلت إلينا. واذا كان قد غاب عن عالمنا في أواخر خمسينات القرن الماضي, فإن إرث الجبتانا قد وصل إلينا من خلال تلميذه في المنصورة علي الألفي. والمثير للدهشة ويحتاج لعلماء آثار ومؤرخين متخصصين لمناقشته, هو أن الأب أبيب كان يحفظ الجيبتانا التي وصلته عبر الأجيال, وبالتحديد عبر55 جيلا, وكان يرددها بالقبطية التي كان أحد فقهائها, إلا أنها ليست مكتوبة أو مخطوطة مما يجعل المرء يتساءل: هل الجبتانا نص شفاهي أذن؟ وماهي امكانات حماية نص شفاهي طويل تقترب صفحاته من400 صفحة حتي يصل إلينا عبر55 جيلا؟ من جانب آخر, فإن الجبتانا نص مقدس لقدماء المصريين يروي قصة انبثاق الألهة وظهورها, وبداية تجمع المصريين حول النيل, وبداية ظهور الحضارة المصرية واستنبات الحبوب واختراع أدوات الزراعة وبدايات استئناس الحيوان. وتجفيف المستنقعات, وتمضي الجبتانا تروي جذور الحضارة المصرية القديمة حتي مصرع أوزوريس, وتتوقف عند مجيء مينا نارمر الذي قام بتوحيد الأرض المصرية. صاحب النص حسب رواية الأب أبيب هو المؤرخ المصري الشهير مانيتون السمنودي, الذي استمد منه معظم المؤرخين اللاحقين عليه ترتيب الأسرات الفرعونية, التي حكمت مصر, وإذا كان جانب كبير من برديات مانيتون التي تحتوي قوائم الأسر الفرعونية قد تم العثور عليها, فان نص الجبتانا وصل شفاهة عبر الأجيال وهو كما يحدد الاستاذ الألفي: غير مشهور لمصريته العريقة, ولأنه يعطي الانطباع بأن الفكر العبراني والسامي مأخوذ عنه.. وكان الأب أبيب ينطق المتن الثاني باسمه المشهور في القبطية الجبتانا. ومنذ خمسينات القرن الماضي, وأثناء طلب الأستاذ الألفي للعلم في خمسينات القرن الماضي, بدأ في جمع وكتابة متن الجبتانا وأطلع الأب أبيب علي عدة كراسات مما كتبه فوافق عليها وتضم16 سفرا ويحتوي كل سفر علي خمسة اصحاحات. وفي عام1959 توفي الأب أبيب, كما تخرج المحقق في دار العلوم. وعندما جمعته الظروف بكل من أميل دوس ونصيف بطرس المحاميين, أمداه بكل ما كتب عن العصر العتيق سواء بالعربية أو الانجليزية, ويضيف الألفي ان هذين المحاميين كانت لديهما فكرة عامة عن الجبتانا من أحد المعمرين الأقباط في بني سويف, وأمكناني من الاتصال به عن طريق الأستاذ منير جرجس المحامي في بني سويف, وتبينت أن ما يحفظه ذلك البباوي لا يختلف كثيرا عما كان يحفظه الأب أبيب, وان كانت رواية الأب أبيب أكثر دقة واتساقا. ويضيف أيضا أنه اعاد صياغة الجبتانا عدة مرات بعد مراجعاته للتاريخ القديم, وبالتحديد أعمال هيكات والمالطي وهيرودوتس وهيكاتا الأبدري ومانيتون السمنودي وديودور الصقلي وكلهم عاشوا وكتبوا اعمالهم التي وصلتنا قبل الميلاد, وانتهي الأستاذ الألفي من الصورة الأخيرة للجبتانا عام1988 ولم يقيض لها أن تنشر إلا بعد22 عاما. كاتب هذه السطور فتنته الجبتانا التي يرويها مانيتون السمنودي(270 ق. م). وإذا كانت متن الجبتانا مازال محفوظا علي جدران المعابد المصرية, فإن متن الجبتانا حسبما ذكر الأستاذ الألفي جمعه مانيتون من محفوظات المعابد المصرية عن اسفار التكوين المصرية. أو ربما كان مدونة شعبية دينية تحكي قصة الشعب المصري ويضيف: وكان الراهب أبيب يشبه الجبتانا بشاهنامة الفردوس وبالعهد القديم, وكان الأب أبيب يلح علي أن العبرانيين قد اقتبسوا الأجزاء الأولي من الجبتانا في سفار موسي وبدايات العهد القديم ونسجوا تاريخهم الخاص علي منوال الأجزاء المتأخرة من الجبتانا. وسوف أنقل للقارئ فقرة واحدة من الاصحاح الأول لسفر رؤيا مانيتون السمنودي ليتعرف علي الجو العام للجبتانا: عشت أنا مانيتون في معبد سمنود ذي الأسوار السبعة وتعلمت وعلمت. وأتقنت لغات كثيرة. وعرفت جميع الآلهة. وقرأت جميع الألواح المرسلة من الآلهة.. صرت كاهنا وأنا ابن ثماني عشرة سنة. وكاهنا أكبر وأنا ابن ثمان وعشرين.. لم أذق سمكا في حياتي ولا لحم خنزير.. كما أنني ولدت مختونا بلا عزلة.. عشت زمن الاسكندر الكبير وفي زمن خلفائه من المقدونيين المسمين بالبطالمة.. تعلمت وعلمت في معابد الاسكندرية وجامعتها ومكتبتها. ويمضي مانيتون علي هذا النحو ليكتب تاريخ الألهة والحضارة حتي يتوقف عند الوحدة بين الشمال والجنوب علي يد مينا نارمر. لكن المشكلة أنه لاسند علميا أو تاريخيا للجبتانا, فهي نص شفاهي انتقل عبر55 جيلا وتعرض بالتأكيد لكل مايمكن أن يتعرض له نص شفاهي من إضافات وتعديلات وحذف.. الخ ومع كامل الاحترام للاستاذ الالفي أو الراجل الأب أبيب إلا أن الجبتانا بلا سند حتي لو كان مضمون كثير من اصحاحاته يتفق مع مانعرفه من تاريخ وحضارة مصر القديمة. وأخيرا فإنه من المثير للدهشة أو حتي الارتياب ان الجبتانا نشر منذ عدة شهور, إلا أن أحدا لم يشر اليه ليختلف أو يتفق معه, فأين المشتغلون بالحضارة المصرية القديمة؟ ولماذا لم يتصد أحد منهم للاتفاق أو الاختلاف أو الجدل؟