يمكن للمتابع لمستجدات العلوم السلوكية وأدبيات العلوم الإدارية أن يستخلص تركيز هذه العلوم علي الجوانب الوجدانية للعاملين والقيادات سواء علي المستوي الكلي( إدارة الدولة) أو المستوي الجزئي( علي مستي المؤسسة), وذلك لما للجوانب الوجدانية من تأثير بالغ علي ممارسات العاملين وعلي قرارات القيادات, ويمكن أن نقرر أن مصر قد عانت كثيرا من غياب الجانب الوجداني في إدارة الدولة لعقود كثيرة, وقد بلغ إهمال هذه الجوانب ذروته في السنوات الأخيرة لحكم مبارك الذي لم يظهر أي قدرات وجدانية تجاه شعبه, واكتفي بالحديث في المناسبات من خلال خطب مكتوبة له بطريقة آلية لا روح فيها ولا احترام لرعاياه وشجع ظهور طبقات من المنتفعين مصاصي دماء الشعب والمتاجرة بمقدراته. وما أحوجنا اليوم ونحن بصدد بناء مصر الحديثة إلي تبني ونشر ثقافة وجدانية مصرية تأصل لمجتمع التآخي والتراحم واحترام الآخر والسمو الأخلاقي وتعظيم قيم المواطنة ونبذ الفرقة, فقد مرت مصر منذ يناير2011 بأحداث ومتغيرات أرهقت المصريين وشتت طاقاتهم وأحدثت تنازعا مقيتا, وأوجدت بيئة خصبة لسلوكيات غريبة عن الشعب المصري مثل السرقة والبلطجة والاستقواء بالخارج واستباحة كل ما هو عام وداست بالأقدام علي قيم عريقة وأعراف أصيلة, ويمكن إرجاع هذه الممارسات لشيوع الاتجاهات السلبية وتفشي المشاعر العدوانية نتيجة غياب القيم الوجدانية وإلي تغليب المصالح الفردية والنزعات الطائفية التي تنبع من الجوانب العقلية والحسابات الضيقة للمكاسب والخسائر, وأن المزاج الجمعي العام السائد في مجتمعنا المصري يفتقر إلي إعمال القدرات الوجدانية, وبالتالي نحتاج في هذه الفترة الدقيقة من التحول الديمقراطي الي تبني مفاهيم وممارسات الذكاء الوجداني في الأسرة والمدرسة والعمل والنادي والشارع من أجل بث المشاعر الإيجابية وتفعيل الطاقات الوجدانية لدي المصريين حتي تعم قيم وسلوكيات التعاطف والتراحم والمروءة والمحبة والصدق ومساعدة الآخرين والصفح والتسامح وكظم الغيظ والعفو عن الناس, والأخذ بقاعدة سلوكية مؤداها أن تعامل الناس كما يحبون أن يعاملوا وليس كما يعاملونك, وعملا بهذا النهج القويم وتفعيلا لمفاهيم الذكاء الوجداني فإننا مطالبون كمواطنين أن نحسن الظن ببعضنا البعض ونتفهم مشاعر الآخرين والتحكم في الانفعالات وتهذيب سلوكنا وتفهم دوافع واحتياجات الآخرين بعيدا عن الممارسات السلبية والمشاعر غير الإيجابية المنطوية علي التشاحن والتخوين وإيثار الذات والعصبيات الأيديولوجية والنزعات القبلية وسلوكيات العناد والمكابرة. أما القيادات السياسية والقيادات الإدارية فعليهم التحلي بالقدرات الوجدانية واكتساب جدارات الذكاء الوجداني التي تحد من المشاعر السلبية والقرارات غير الرشيدة, التي عادة ما تصدر عن الجانب الأيسر لمخ الإنسان الذي يعمل حسابات المنطق والذكاء العقلي والتفكير الخاطئ, وطبقا لنتائج بحوث علمية فإن نصف تعاسة العالم نتجت عن قرارات صادرة عن المخ الأيسر, وهنا يأتي دور الذكاء الوجداني في توظيف ملكات الجانب الأيمن للمخ الخاصة بالمشاعر والخير والجمال والفنون والآداب في تهذيب وكبح جماح قرارات الجانب الأيسر, وهذا هو جوهر الذكاء الوجداني الذي يعني الاستخدام الفطري والتلقائي للعواطف والأحاسيس الإنسانية إلي الدرجة التي تمكننا من ترشيد تفكيرنا وتهذيب سلوكنا وتعظيم مخرجات التفاعل مع الآخرين. كما ندعوهم لتنمية قدراتهم الوجدانية وتغليب الاعتبارات الإنسانية وإظهار خصائص الذكاء الوجداني التي تدعم قيم قبول الآخر واحترام الناس كبشر والوعي بالذات وضبط النفس والإحساس بالناس ومشاكلهم والتعاطف, وأن تسعي كل القيادات إلي اكتساب واستخدام الملكات الوجدانية التي تضفي لمسات إنسانية من الخير والمحبة والتسامح علي تصرفاتهم العقلانية, وهي صورة افتقدناها في رؤساء مصر السابقين ودفع الوطن ثمنا فادحا لعنادهم وظلمهم واستبدادهم وأحيانا لقصورهم الفكري العقلاني وليس فقط القصور الوجداني. والخلاصة نريد قادة يحكمون بالوجدان وليس بالسلطان. أستاذ إدارة الموارد البشرية بجامعة حلوان [email protected]