لم أجد أبلغ من هذه العبارة التي جعلتها عنوانا للمقال والتي اقتبستها من العمود اللامع الذي يكتبه دائما الكاتب الصحفي المعروف الاستاذ عبدالعظيم درويش والذي ينشره بانتظام في جريدة الأهرام بعنوان تعليق. في هذا العمود الذي نشر في الرابع من ديسمبر2010 بعنوان صندوق الانتخاب والمستطيل الأخضر علق الأستاذ درويش علي الانتخابات في جولتها الأولي قبل الإعادة قائلا بدا من مطلع نهار يوم الاحد الماضي أن مرارة الموروث الثقافي لا تزال عالقة في ضم جموع المواطنين الناخبين. غير أنه في السابقة من مسائه تأكدت مخاوف المواطنين, فقد غاب العقل, وتراجع المنطق, وسكت الكلام, وانقطع الحوار العقلاني, وسادت بدلا منه لغة البلطجة وأعمال الشغب والعنف بدرجة صورت أن ماجري طوال النهار لم يكن انتخابات برلمانية قدر ما كان أقرب الي مواجهات بين أعضاء المافيا وتشكيلات آل كابوني! ويحق لنا أن نتساءل في ضوء هذا التحليل: ما هو الموروث الثقافي الذي أحس المواطنون بمرارته كما عبر عن ذلك الأستاذ عبدالعظيم درويش؟ ويبقي السؤال: ما الذي يمكن أن نفعله لإزالة هذه المواريث الثقافية السلبية والتي تظهر في اختلال القيم من ناحية وفي شيوع السلوك الاجتماعي المنحرف من ناحية أخري؟ وأضاف قائلا ما جري يوم الأحد الماضي من البعض سواء من جانب مرشحين أو من أنصارهم في عدد من الدوائر قد أعاد الي الأذهان نماذج سيئة من انتخابات سابقة, إذ إن عددا قليلا من مرشحي البرلمان المقبل قد اختاروا أن يكون طريقهم الي تحت القبة إما بوسائل الرشوة أو من خلال أعمال العنف والبلطجة. والواقع أنني وجدت في هذا التوصيف الدقيق مصداقا لتفسيري لما حدث في الانتخابات وكونه ليس مجرد حوادث تزوير متفرقة هنا أو هناك بل هو ترجمة أمينة لظواهر التخلف الاجتماعي السائدة في مجتمعنا. وقد حاولت أن أعدد هذه الظواهر في مقالي المنشور في الأهرام المسائي في4 ديسمبر بعنوان التحول الديمقراطي والتخلف الاجتماعي. وقررت أنه لوحظت في الجولة الأولي تجاوزات متعددة وبرزت فيها سلبيات واضحة تتعلق بالسلوك المعيب لعدد من المرشحين من مختلف التيارات السياسية بالإضافة الي ضعف التمسك بالقيم الليبرالية لدي جماهير الناخبين وأبرزت لجوء بعض المرشحين لاستخدام العنف والبلطجة لردع الناخبين أو ترويعهم أو منعهم من أداء واجباتهم الانتخابية. وقلت في عبارة موجزة لقد كشفت الانتخابات عن الملامح السلبية لثقافة متخلفة وعاجزة. ويحق لنا أن نتساءل في ضوء هذا التحليل: ما هو الموروث الثقافي الذي أحس المواطنون بمرارته كما عبر عن ذلك الأستاذ عبدالعظيم درويش؟ وكأن الاستاذ صلاح عيسي الكاتب الصحفي المعروف والمؤرخ المرموق قد سمع السؤال فأراد من خلال غوصه في أرشيف التاريخ المعاصر الرد علي هذا السؤال المهم. كتب صلاح عيسي في عموده المعروف مشاغبات الذي ينشره في جريدة المصري اليوم مقالا قصيرا بعنوان فذلكة تاريخية في علم تزوير الانتخابات نشره في4 ديسمبر.2010 ولنا ابتداء أن نتمتع بالسخرية اللاذعة التي يتقنها صلاح عيسي والتي بدأت بالعنوان حيث حول تزوير الانتخابات من جريمة يعاقب عليها القانون الي علم متكامل له أصوله ومنهاجه! وهو يعتبر أن إسماعيل صدقي باشا(1875 1950) والذي كان من أبرز السياسيين المصريين لما له من تاريخ نضالي بارز هو رائد علم تزوير الانتخابات! وبعد أن يسرد بالتفصيل تاريخه السياسي الحافل ومنها توليه لوزارات الأوقاف والزراعة والداخلية والمالية, وانضمامه الي الوفد عند تشكيله علي مشارف ثورة1919, وتوليه رئاسة الوزارة مرتين في عامي1930 و.1946 وكانت الصحف الموالية له تصفه بأنه رب الكفاءات لتعدد مواهب. وقد وضع اسماعيل صدقي كما يقرر صلاح عيسي أسس علم تزوير الانتخابات النيابية وتشمل: التلاعب بالقوانين المنظمة للعملية الانتخابية, وتزوير الكشوف التي تتضمن أسماء الناخبين, وشراء الأصوات, وتوزيع فترات الأمن حول لجان الانتخابات بأعداد تتناسب مع عدد الأصوات التي يتوقع أن تحصل عليها أحزاب المعارضة, والتصويت نيابة عن الموتي والغائبين! وهكذا استطاع صلاح عيسي من خلال عرضه التاريخي الأخاذ أن يضع أيدينا علي أحد مصادر ثقافة التخلف السائدة والتي انعكست سلبا علي الأداء الديمقراطي في انتخابات الجولة الأولي, وهو أن هذه الثقافة لها جذور تمتد الي البدايات الأولي للتجربة الديمقراطية في مصر. والمهم في الموضوع أن الذين قاموا بها هم أعضاء أحزاب الأقلية التي انشقت عن الوفد بزعامة سعد زغلول, والتي سمحت لنفسها بأن تخون المثال الديمقراطي بصورة صارخة. وقد تبدي ذلك أساسا الي جانب تزويرها للانتخابات في قبولها تشكيل الوزارات المختلفة بناء علي تآمر السلطة البريطانية المحتلة والملك فاروق بهدف رئيسي هو إقصاء حزب الوفد والذي كان حزب الأغلبية الشعبية بحسب نتائج الانتخابات حين كانت تجري بنزاهة حتي لا يمارس الحكم. ولذلك لم يتح لحزب الوفد منذ صدور دستور عام1923 حتي قيام ثورة يوليو1952 أن يحكم إلا لفترة ثماني سنوات فقط! ومن الأهمية بمكان أن نقرر أن هذا السلوك السياسي المعيب لأحزاب الأقلية السياسية هو الذي جعل الجماهير تكفر بالنظام الحزبي وخصوصا في الفترة من عام1945 حتي1952 تاريخ قيام ثورة يوليو. بعبارة أخري فقد النظام الليبرالي مصداقيته نتيجة المخالفات الصارخة للقواعد الليبرالية وخرق قواعد الممارسة الديمقراطية. لكل ذلك أحست الجماهير بأن شرعية النظام الملكي الدستوري قد سقطت, وأن هناك حاجة لإقامة نظام سياسي جديد, ولذلك التفت الجماهير حول الضباط الأحرار الذين قاموا بالانقلاب العسكري في23 يوليو1952 والذي تحول الي ثورة. لأن هؤلاء الضباط تبنوا البرنامج الإصلاحي الذي وضعته القوي الوطنية المصرية من أقصي اليمين الي أقصي اليسار, وقاموا بتنقيته بطريقتهم وفي مقدمة أهدافه تحقيق العدالة الاجتماعية. ويبقي السؤال: ما الذي يمكن أن نفعله لإزالة هذه المواريث الثقافية السلبية والتي تظهر في اختلال القيم من ناحية وفي شيوع السلوك الاجتماعي المنحرف من ناحية أخري؟ ليس أمامنا سوي العمل المنهجي علي ترسيخ قواعد الثقافة المدنية لدي النخبة قبل الجماهير, والقضاء علي أزمة الثقافة السياسية, والخروج من كهوف اللامبالاة الي آفاق المشاركة الفاعلة!