قبل أن يبدأ جوليان أسانج مؤسس موقع ويكيليكس في نشر وثائق ومكاتبات وزارة الخارجية الأمريكية علي موقعه الإلكتروني, لم تكن مثل هذه الوثائق تظهر قبل25 عاما حسب القانون الأمريكي, وتمثل في حالة الإفراج عنها منجما يغرف منه الصحفيون وكتاب التاريخ, لقراءة الوثائق وتحليلها بغية إعادة قراءة التاريخ مرة أخري, وبشكل مختلف, إذ عادة ما تكشف الوثائق عن بعض المواقف والاتجاهات لبلدان وسياسيين لم تكن معلومة من قبل. لكن أسانج غير كثيرا في التاريخ بهذا الكم الكبير من وثائق الخارجية الأمريكية, لأنه يكشف عنها فور وقوع الأحداث, أو أثناءها, مما يجعل الواقع العلني مرتبطا كثيرا بما يدور داخل الغرف المغلقة, حيث يلتقي السياسيون والدبلوماسيون والمسئولون, ويتحدثون في بعض الأمور التي لا يخرج الكثير منها للعلن. وليس خافيا علي أحد أن نشر هذه الوثائق وضع الإدارة الأمريكية في حرج بالغ أمام كافة دول العالم, لأن الكثير من الأسرار واللقاءات السرية خرجت للعيان مما سبب إحراجا بالغا, للعديد من الدول والشخصيات التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الإدارة الأمريكية. ومع ذلك يظل ما يطرح علي ويكيليكس من وثائق به الكثير من الأمور التي لا تستحق الضجة, فالكثير منها عبارة عن محاضر لقاءات رسمية أو غير رسمية لمسئولين ودبلوماسيين أمريكيين مع شخصيات مختلفة ومتنوعة, وجرت العادة انه بعد أي لقاء يقوم مسئول في السفارة الأمريكية أو أي سفارة أخري بكتابة محضر اللقاء ونقله إلي وزارة الخارجية في بلده, يشير فيه إلي فحوي اللقاء وأهم الموضوعات التي نوقشت الآراء التي تم إبداؤها.. وهي في بعض الأحيان لا تمثل قيمة كبيرة ولا تعدو أكثر من دردشة. لكن تظل الأهمية والشغف الكبير بهذه الوثائق قائما في كل أنحاء العالم, لأنها تكون مشفوعة بعبارات مثل سري أو خاص أو سري جدا أو غير مسموح بتداولها, مما يمنحها غموضا وأهمية, في حين أن تفحص ما جاء في الوثيقة قد لا يحمل جديدا عن المواقف المعلنة.. مثل ما نقلته بعض الوثائق من تحذير الرئيس مبارك للإدارة الأمريكية من غزو العراق, ثم تحذيره من أن حل الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة العراقية من شأنه أن يؤدي إلي الفوضي, وهي أمور أعلنها الرئيس في أكثر من مقابلة صحفية وخطب عامة. ومع ذلك بدا في الوثائق الكثير من الأسرار والأمور التي تنشر لأول مرة أو ما كان يتردد دون أن تدعمه أدلة مثل تورط رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في فرق الاغتيالات السرية التي شكلها الحرس الثوري الإيراني في العراق لاغتيال قادة السنة والمناهضين للنفوذ الإيراني في العراق, وكذلك تورط المالكي في اغتيال خصومه السياسيين ومن بينهم محافظ نينوي بسبب مشاكله مع الأكراد. ورغم الكثير مما كتب في جميع أنحاء العالمة عن تسريبات ويكيليكس, فقد لفت انتباهي مقال كتبه بول شرودر أستاذ التاريخ بجامعة إلينوي الأمريكية في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان الحياة السرية للأمم, ففي حين يري صاحب موقع ويكيليكس أنه كلما زادت المعلومات المتاحة لدي الرأي العام حيال كيفية إدارة الحكومة الأمريكية للعلاقات الخارجية, جاءت النتيجة أفضل, يقول شرودر أن التاريخ يكشف عن أن الدبلوماسية المعلنة غالبا ما تحمل عيوبا قاتلة, لأن السرية تعتبر جزءا لا يتجزأ من أي عملية تفاوض, لأنه من المتعذر حسم أي عملية اندماج بين شركتين أو تسوية قانونية معقدة أو طلاق ودي من دون توافر مستوي موثوق به من السرية. وتبلغ الحاجة إلي السرية أعلي مستوياتها في إدارة العلاقات الخارجية, فمثلا, لو كانت الأطراف الدبلوماسية المتنوعة التي كانت تتفاوض عند نهاية الحرب الباردة واتحاد شطري ألمانيا مضطرة للعمل تحت دائرة الضوء التي تفضح خلافاتهم والمقترحات الحمقاء التي طرحت واللغة المتهورة المستخدمة في اتصالاتهم الداخلية, مثل معارضة مارجريت ثاتشر لتوحيد ألمانيا في مواجهة عزم هيلموت كول علي تحقيق هذا الأمر, كانت مسألة عقد محادثات مجدية ستصبح في حكم المستحيل. ويرد شرودر علي من يعتقدون أن هذه التسريبات ستسمح للعامة بمساءلة الحكومة بدرجة أكبر, وبالتالي تحسين السياسة الخارجية الأمريكية, قائلا إنها تتسبب ببساطة في دفع المسئولين للتراجع إلي العالم السري بدرجة أكبر, سعيا لحماية أنفسهم ومناصبهم.. ويختتم شرودر مقاله بأن التسريبات الصادرة عن ويكيليكس وبحجم غير مسبوق هي أشبه بإقدام هواة غير محترفين علي استخدام الديناميت لتوسيع نفق يضم خطوط كهرباء المدينة. من المحتمل ألا تتسبب هذه التسريبات في إثارة الحرب أو حتي أزمة خطيرة, لكنها ستدمر العمليات والسمعة الدبلوماسية الأمريكية... هذا ما قاله شرودر أما ما لم يقله فهو أن مثل هذه الوثائق تجعل رجال السياسة في معظم أنحاء العالم يقفون عراة أمام مواطنيهم, وهو أمر لا يحرج فقط السياسيين وإنما يهز من مصداقية ووضع الدول والحكومات.