تتفق الدول في أمور كثيرة, ولكن كلا منها ليس مجرد نسخة من الأخري, فالظروف التاريخية والجغرافية تجعل إناء الدول يحتوي علي مفارقات عدة يعطيها شكلها الخاص وهويتها المتميزة ومن بين أهم ما يحدد الفارق بين الدول الطريقة التي تدير بها أمورها السياسية, حتي بين الدول الديمقراطية فإن هناك اختلافات ملحوظة ما بين القرار السياسي في الولاياتالمتحدة وكندا القريبة والمملكة المتحدة التي خرج كلاهما من رحمها. وتستطيع أن تجد فارقا بين ألمانيا وفرنسا كلتيهما والدول الإسكندينافية أو اليابان; وربما علي سبيل الجمع يمكنك أن تتحدث عن تقاليد أنجلو سكسونية أو لاتينية أو آسيوية, ولكنك حتي داخل كل هؤلاء سوف تجد الألوان غير متشابهة. وبنفس الطريقة فرغم ما يجمع الدول الديكتاتورية فإن ألبستها مختلفة, فإيران ليست كوريا الشمالية, وكلاهما لا يبدو كحكم راؤول كاسترو في كوبا, ولا بد أن حكم البعث في سوريا له سماته الخاصة. وعندما ترسو الحال علي دول تسير في مرحلة للتحول الديمقراطي طال زمنه أو قصر, فإن الاختلافات تبدو بائنة, ومن كثرتها كانت الحيرة ما بين معيار القياس وما إذا كانت من البلدان الديمقراطية النقية أو البلدان الديكتاتورية الصافية. ومن بين هذه الدول المحيرة تأتي مصر لأن من قيموها لم يحاولوا فهم منطقها الخاص, ولكنهم وقعوا أكثر في فرض معايير خارجية عليها مع تجاهل عملية التطور التاريخي الذي سارت فيه. وانشغل باحثون باختراع يناسب الحال فكان وصف جماعة كارنيجي للنظام السياسي المصري بأنه سلطوية ذات لباس ليبرالي أوLiberalizedAuthoritarianism, بينما اكتفت جماعات أخري من الكتاب المصريين بخبط كف علي كف وإبداء الحيرة من هؤلاء المصريين العجاب الذين لا يريدون السير في طريق يسهل فهمه أو القياس عليه. والحقيقة أن ما يقرب من تسعة عقود من نشأة الدولة المصرية تقريبا منذ عام1922; وأكثر من مائتي عام منذ قيام الدولة الحديثة مع حكم محمد علي الكبير فإن الدولة خلقت منطقها الخاص الذي ارتبط إلي حد كبير بقيم الاستقرار السياسي ومن ثم كان التجاوز السريع للثورة العرابية لكي يستمر التحديث علي يد الأسرة العلوية; ثم بعد ذلك القبول بنتائج ثورة1919 واستقلال الدولة عن الإمبراطورية العثمانية التي كانت في طريقها إلي الانقراض علي أساس وجود أغلبية سياسية واضحة يمثلها حزب الوفد تدور حوله مجموعة من الكواكب التي خرج بعضها من رحمه وبعضها الآخر من رحم الاختلاف. فقد شهد حزب الوفد العديد من الانشقاقات والانسلاخات عن بنيته, بحيث إن عددا من الأحزاب الصغيرة التي ظهرت علي خريطة القوي السياسية المصرية خرجت من عباءة حزب الوفد, لدرجة أن بعض المؤرخين يعتبرون أن الأحزاب الصغيرة في مرحلة ما قبل ثورة23 يوليو1952 إما أنها خرجت من عباءة حزب الوفد أو نشأت برعاية القصر. فقد تكون حزب الهيئة السعدية عام1938, نتيجة للخلافات الشديدة التي عصفت بحزب الوفد, وقد استمر في الحكم طيلة عشرة أعوام. أما حزب الكتلة الوفدية فتأسس علي خلفية الصراع بين مصطفي النحاس ومكرم عبيد, بعد أن أصدر الأخير الكتاب الأسود, حيث قرر النحاس فصل مكرم عبيد وراغب حنا من عضوية الوفد في عام1942, وعلي ضوء ذلك قرر17 عضوا من الوفديين في مجلسي الشيوخ والنواب الاستقالة من الوفد والالتحاق بمكرم عبيد كما قرر عدد من الكوادر الأخري السير في الاتجاه نفسه, حيث ظهرت الكتلة المستقلة أو الكتلة الوفدية أو الحزب المكرمي في عام1943, كما ظهر حزب الأحرار الدستوريين عام1922 برئاسة عدلي يكن باشا, بعد الخلافات التي نشبت بين سعد زغلول وعدد من أعضاء الوفد خلال المفاوضات مع الإنجليز. ورغم أن حزب الوفد نجح في تحقيق نتائج قوية في كل الانتخابات التي شارك فيها في العقود الثلاثة التي سبقت ثورة يوليو1952, إلا أن فترات بقائه في السلطة كانت قصيرة, بسبب دخول الحزب في مواجهات حادة مع الملك انتهت معظمها بإقالة الحكومة. ولكن ذلك لم يحرم الحزب من أن يكون حجر الزاوية في السياسة المصرية حيث كان الحزب الذي وقع اتفاقية عام1936 مع بريطانيا, كما كان هو الحزب الذي استدعاه الملك للحكم بعد أزمته مع الإنجليز عام1942 وأخيرا كان هو الحزب الذي تصور الملك أنه سوف ينقذ البلاد من غلواء التخبط والتطرف في انتخابات1950. والحقيقة أن ثورة23 يوليو1952 لم تكن إلا استكمالا لذات الميراث حيث تمحورت أغلبية حول السلطة هذه المرة لكي تحل محل الوفد; ولما ظهر مع النصف الثاني من السبعينيات أن الأغلبية لا تليق دون وجود أقلية جرت عملية التحرر السياسي بالمنابر ثم الأحزاب, فكان النجم هو الحزب الوطني الديمقراطي, وما بقي كانت كواكب لا يكتمل الكون السياسي المصري دون وجودها. وربما كان روبرت بايندر علي ما أظن هو الذي أمسك بلباب السياسة المصرية في كتابه في لحظة الحماس الذي صدر عام1979, ووجد فيه أن النخبة المصرية وأصولها ظلت علي استقرارها منذ عام1922 حتي وقت صدور الكتاب. ولم يكن ضباط ثورة يوليو إلا امتدادا لأفندية ثورة1919, حيث جاء كلاهما من ذات الشريحة الاجتماعية التي لم تختلف ممارساتها كثيرا ما بين سابق عهد ولاحقه, وأتي كلاهما من ذات المناخ المتخلف الذي كانت عليه مصر طوال عقود طويلة. ولمن يدهش ممن يعتقد أن بعض الممارسات الانتخابية تبدو كما لو كانت اختراعا جديدا فما عليه إلا أن يعود إلي أدب ما قبل الثورة لكي يجد استمرارية مؤلمة. و يعد الكاتب الكبير توفيق الحكيم أحد الأوائل الذين سلطوا الضوء علي تزوير إرادة الناخبين المصريين حينما أشار في روايته الشهيرة يوميات نائب في الأرياف إلي الجوانب السلبية في المجتمع القروي المصري في فترة ما قبل ثورة1952, بحكم كونه معايشا لتفاعلات هذا المجتمع الذي لحق به البلاء بدءا من الفقر الذي يدفع الفلاح لسرقة كوز ذرة, مرورا بحلاق الصحة الذي يحصل علي تصريح الدفن من طبيب الصحة دون معاينة جثة المتوفي نظير حصوله علي خمسة قروش ومأمور المركز الذي يسعي وراء ولائم العمدة في أحداث الجرائم ويفتح السجون علي مصراعيها لملئها وقت الحاجة وانتهاء بتزوير الانتخابات لإنجاح مرشح الحكومة التي كانت خاضعة ذاتها للاستعمار الأجنبي فضلا عن معاناتها من التخلف الداخلي. ومن ثم, فإن فترة ما قبل الثورة ليست وردية أو تمثل جنة الانتخابات كما يحلو لعدد من الكتاب أن يصورها وإن الحنين إلي الماضي الذي يتشدق به البعض يتطلب الإحاطة الكاملة بالحادثة التاريخية بظروفها وشخوصها وأحداثها ووقائعها, دون تلوين فيها أو اللعب في أحد مكوناتها. فالحكيم استطاع بقلمه الرشيق ورؤاه الصائبة أن يكشف مدي تغلغل الفساد في قطاعات المجتمع المصري, كالمركز والمحكمة والنيابة ومكتب الصحة, فضلا عن الأطراف الفاعلة في هذا الفساد مثل الفلاح والحلاق ومفتش الصحة والمأمور والعمدة والأعيان. ويسرد الحكيم في هذه الرواية مشاهدات من الحوادث والقصص التي عرضت عليه في أثناء عمله في القضاء في إحدي مناطق الريف المصري, حيث إن مأمور الشرطة في الريف والمشرف علي الانتخابات قال لصاحب الرواية( أترك الناس تنتخب علي كيفها لغاية ما تتم عملية الانتخابات وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وأرميه في الترعة وأروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه علي مهلنا). ولذلك ربما كان مفتاح التغيير في مصر هو تغيير البيئة الاقتصادية والاجتماعية المصرية لأنها علي وجه التحديد شكلت الفارق ما بين مصر من ناحية والبلدان الديمقراطية من ناحية أخري.. وبالتأكيد فإن قضاء اليابان علي الأمية عام1906 هو الذي جعلها تسبق مصر في السياسة والصناعة, وكذلك فإن وجود72% من المتعلمين في كوريا الجنوبية عام1960 هو الذي جعلها لا تقضي علي الأمية فقط وإنما تسبق مصر في كل شيء آخر من الصناعة إلي الديمقراطية. الأمر الآن هو أن العقود الثلاثة الأخيرة بدأت تشهد مثل هذا التغير حتي لو كان ببطء شديد. وأيا كانت المؤشرات التعليمية والصحية والتكنولوجية فإن مصر أخيرا وصلت إلي بداية الطريق الذي يجعل الوعاء السياسي أكثر شفافية وديمقراطية لعل بعضا منها سوف يظهر في الانتخابات التشريعية المقبلة. ولكن الأهم من ذلك هو أنها تضع أيدينا علي نقطة البداية في التغيير في مصر: استكمال تعليم الكافة في مصر, التحول الكامل إلي اقتصاد السوق, الاندماج في العالم المعاصر تكنولوجيا واقتصاديا وثقافيا. أليس ذلك هو ما فعلته اليابان وكوريا وتركيا وماليزيا والبرازيل وجنوب أفريقيا وكل من نريد أن نسبح مثلهم واللحاق بهم؟ [email protected]