ترك الطبيب المخضرم أدواته فورعلمه بطبيعة عمل المريض الجالس أمامه, وقال بنبرة تحد وقد ظهرت علي وجهه علامات الجدية.. انت صحفي, هل يعجبك ما يحدث؟ ولم ينتظر إجابة حيث خاض في الكثير من التفاصيل والعناوين والقضايا والملفات التي تمتليء بها صفحات المعارضة وبرامج الفضائيات. قاومت حساسية تجتاحني بسبب هذا اللون الأسود من الكلام الذي يثير الإحباط والاكتئاب والتشاؤم, ولكنني أحسست بصدق مشاعره وانه يبحث عن الحقيقة ويريد شعاعا ينقذه من ظلمات تلك الرؤية. قلت: أنت طبيب ذائع الصيت وقد اكتسبت خبرتك بالدراسة الجادة والممارسة الطويلة والشاقة في المعامل وغرف العمليات والمؤتمرات المتخصصة للإطلاع علي كل جديد هل يرضيك ان يأتي بعض الأشخاص الذين لا يمتلكون شهادات الممارسة او الخبرة, ويطالبونك بأن يقف احدهم مكانك للكشف علي المرضي؟ أجاب بسرعة: بالطبع لا.. وكيف اصلا اسمح لهم بدخول العيادة. قلت: هذا مايريده البعض في مصر, يعتقدون أن المهارة اللفظية والعلاقات العامة مع بعض الشرائح التي اطلقوا عليها اسم النخبة ورفع شعارات تدغدغ مشاعر الناس وتحاول استغلال معاناتهم اليومية ابتداء من رغيف العيش والمواصلات واختناق الشوارع ونقص الخدمات وغيرها من مشاكل موجودة بالفعل, ولكنها لاتعطي تصريحا بالممارسة لمن لا يملك المؤهلات والخبرات الضرورية والتي تمنحها فقط القنوات الشرعية وهي الاحزاب القائمة والمتعددة والتي تستوعب جميع الأفكار والاتجاهات بصرف النظر عن الاتفاق او الاختلاف معها. قاطعني: هل تريد اقناعي بانه توجد بالفعل احزاب في مصر؟ قلت: إنها موجودة وضرورية ولاغني عنها, وليس هناك من يطالب بالعودة إلي عصر الحزب الواحد والرأي الواحد, ولكن المعارضة تحتاج إلي خبرة ووقت لاكتساب المهارات والوجود في الشارع والتأثير في الرأي العام, وقد تكون هناك ملاحظات وتحفظات علي اداء الغالبية من الاحزاب التي لا يشعر بوجودها المواطن, والعلاج لا يكون بالقضاء عليها وحذفها وانما بدعمها وترسيخ مفاهيم الممارسة الصحيحة بداخلها, وهوالأمر الذي نلمسه الآن في عدد منها وقد تكون الانتخابات الأخيرة التي جرت في حزب الوفد نموذجا لما نقول لانها حققت خطوة نوعية نالت الاهتمام والتقدير من الجميع وارست قيما ينبغي ان تجد من يرعاها في الأحزاب الأخري. ولابد لنا في هذا ان نشير لتلك الرعاية التي تحظي بها احزاب المعارضة ولا يوجد لها نظير في الدنيا, وهناك يكون العكس تماما حيث لابقاء للاحزاب الضعيفة ولكن التجربة المصرية تسجل دعما لها, وتمنحها الفرصة للحياة والنمو والانتشار. قاطعني مرة أخري: كل هذا لمواجهة المحظورة وليس حبا في الأحزاب. قلت: المحظورة قصة مختلفة وليست حزبا, ولا يوجد مصري يوافق علي قيام احزاب دينية لان هذا يفتح بابا للشيطان والفتنة والانقسام والتداعيات معروفة ولا تحتاج لشرح طويل, اما المحظورة فقد استفادت طوال الفترة التي انشغلت فيها مصر بالحروب التي فرضت عليها, وبسبب نقص الامكانات وتوجيه الطاقات نحو استعادة الأرض والكرامة قبل حرب أكتوبر نزلت المحظورة إلي الشوارع والقري والنجوع وقدمت الخدمات ونالت في تلك الحقبة شعبية لا يمكن تجاهلها. ولكن الآن الوضع قد اختلف تماما, فالدولة ترصد المليارات لاقامة المشروعات وتحديث البنية الاساسية, وتعمل ليل نهار علي أن يشعر المواطن البسيط ومحدودو الدخل بثمار التنمية التي طال انتظارها, وهناك أوجه قصور تتم معالجتها وتتطلب في الكثير من الاحيان تدخل الرئيس الذي يعقد اجتماعات متواصلة لمتابعة الاداء, كما يقوم بنفسه بجولات لا تنقطع في جميع المحافظات للاطمئنان علي تنفيذ تعليماته وتكليفاته للحكومة. ومع الاعتراف بأن الاداء التنفيذي يقل كثيرا عن الطموحات المرجوة, الا أن الثقة الكاملة في رؤية مبارك التي يعرفها كل مصري تجعلنا علي يقين بأن المتابعة الدقيقة موجودة, ولحظة الحساب لاي مقصر قادمة. تسللت ابتسامة إلي وجهه وقال لماذا الهجوم علي المطالبين بالتغيير والاساءة إلي نموذج مصري ناجح؟ قلت: هذا يعيدنا إلي القادمين للعيادة للمطالبة بممارسة الطب بلا شهادة أو خبرة, الممارسة السياسية تحكمها اصول وقواعد, وعندما يكون الحديث عن رئاسة مصر فعلينا ان نعي الحجم والدور والتاريخ والمكانة, ومصر ليست دولة صغيرة يمكن التجريب فيها, كما أن المسئوليات الكبري تتطلب حنكة ودراية واسعة لا يمكن المقارنة مع غيرها. وهناك من يتحدث في هذا الأمر باعتباره تنافسا علي رئاسة ناد أو شركة او اتحاد طلبة يحاول من خلاله ان يستعيد ذكريات طال بعده عنها. ولا يدرك او يعرف ان مصر بثقلها ووزنها وشعبها تعرف طريقها جيدا وترفض الوصاية عليها حتي ولو جاءت من واحد يحمل جنسيتها يأتي ليحاول اقناعنا بأننا لم نحقق اي شيء حتي الآن وان مصر كانت في انتظار رؤيته ووصفاته لكي تستيقظ من النوم. ابدا وهذا غير صحيح علي الاطلاق, وتستطيع انت وقد عايشت حقبا سابقة ان تحكم بنفسك, هل كان يمكن ان تسمع وتري مثل هذه الاراء المعارضة, وهل كل يمكن أن تجري هذه المناقشة بيني وبينك حتي ولو داخل هذه الغرفة المغلقة. سادت فترة من الصمت, وامتدت يده إلي ادواته وقال بسعادة ظاهرة.. عندمايتعلق الأمر بمصر, فلا مجال للمغامرة غير المحسوبة.. يكفينا ما أصابنا منها..