الذي يتابع الكتابات والمؤلفات التي أنجزتها النخبة المثقفة التي حاولت المساهمة في تشخيص الاحتقان الاجتماعي والطائفي علي مدي العقود السابقة, سيجدها تدور حول مجموعة من القضايا التي يراها اسبابا, ومجموعة من الوصايا التي يعتقدها علاجا. يعود مفهوم الجماعة الوطنية كما نعرفه الآن إلي نهايات القرن التاسع عشر, وأصبح شائعا في النصف الأول من القرن العشرين, وبتعبير عالم الاجتماع الألماني فرانك أدولف, أصبح علي كل الألسنة وكان يعبر عن الأمل في تجاوز مجتمع منقسم, وفي جماعة مترابطة, وفي اندماج نزيه ووجداني علي مستوي راق أي منصف يري الصورة من خارجها يمكنه أن يري بوضوح أن هناك محاولات جادة ومخلصة من المفكرين والناشطي لسياسيين والاجتماعيين لتجاوز الأزمات وعلي رأسها التوتر الطائفي وأكثرهذه القضايا اهمية تلك التي تري أن الاحتقان مرده اختلال توزيع موارد المجتمع علي الأفراد والجماعات المكونة له. فهناك خلل في توزيع السلطة, وهناك خلل في توزيع الموارد المالية والاقتصادية, وهناك خلل في توزيع المعرفة وأدواتها علي مختلف قطاعات المجتمع. فالأمر كله يبدو وكأنه عدم قدرة المجتمع علي التوافق علي الحد الأدني للمشاركة بين مختلف مكوناته في تحقيق الحد المعقول من السلام الاجتماعي. والنتيجة المنطقية هي سيادة الحلول الفردية الأنانية, وتقوقع الأفراد حول الجماعات الفرعية الضيقة التي تضمن لها قدرا أكبر من الأمن النفسي والاجتماعي. ويقدم البعض أسبابا أخري للخلل يمكن أن تكون مساعدة أو محفزة أو حتي مفجرة للتوتر الاجتماعي, ومنها التراجع الثقافي الشامل وإهمال العلم الحديث والتعليم وغيرها, ومنها أيضا العوامل الإقليمية والدولية التي يستخدمها البعض بوعي أو بغير وعي لتحقيق مكاسب فئوية أو فردية علي حساب المجموع. أما في محاولة العلاج فيبدو أن النخب جميعا وعلي اختلاف مشاربها وتوجهاتها الفكرية والسياسية اختارت عنوانا واحدا, هو الدفاع عن' الجماعة الوطنية', وهو عنوان يتردد بأشكال مختلفة, ولكنها هائمة وغير محددة, بين كل المثقفين, وأيضا من كل المتورطين في إحداث المشاكل الاجتماعية والذين يقدمون أنفسهم في الوقت ذاته بأنهم الساعون إلي الدفاع عن الوطن والجماعة الوطنية. ويعود مفهوم الجماعة الوطنية كما نعرفه الآن إلي نهايات القرن التاسع عشر, وأصبح شائعا في النصف الأول من القرن العشرين, وبتعبير عالم الاجتماع الألماني فرانك أدولف, أصبح علي كل الألسنة وكان يعبر عن الأمل في تجاوز مجتمع منقسم, وفي جماعة مترابطة, وفي اندماج نزيه ووجداني علي مستوي راق. وطوال القرن العشرين سار مفهوم الجماعة الوطنية في مسارين, المسار الأول كان مثاليا يحدد الجماعة الوطنية في إطار عرقي وثقافي جامد ومحدد سلفا, وأصبح بهذ الشكل هو المقولة الموجهة للنازية الألمانية التي عمدت إلي استبعاد كل من ليس له مكان في النظرية العنصرية التي تتبناها. أما المسار الثاني فكان براجماتيا علنيا, وجاء في إطار المنظومة الليبرالية التي حددته بواقع المشاركة الاجتماعية, أو بمعني آخر الانغماس في الروابط غير الفردية, فوعي الفرد والجماعات الصغيرة بأنها جزء من جماعة اجتماعية كبيرة هو العامل الحاسم في تكوين الجماعة الوطنية التي تسمح بوضع روح الجماعة أمام المصلحة الشخصية, وتجعل من الاندماج الاجتماعي والتقسيم العادل للثروة والشعور بأهمية الفرد للجماعة, وأهمية الجماعة للفرد أساسا لها. فالترابط الاجتماعي يتحقق, والتوترات الاجتماعية تتراجع, ليس علي أساس العرق أو التطابق الثقافي وإنما عندما يقدم أعضاء المجتمع مساهمتهم بطريقة تعاونية من أجل تطوير المجتمع. فإذا نظرت إلي مجمل ما قدمته النخبة المصرية المثقفة والعالمة لقضية مزمنة مثل التوتر الطائفي ستجد أنها قدمت الكثير والكثير في محاولات لفهم المشكلة وأسبابها ودوافعها, غير أنها لم تقدم إلا أقل القليل في فلسفة العلاقات الاجتماعية وماهية الوطن والجماعة الوطنية. بل زد علي ذلك أن التيار العام للثقافة المصرية ينزع إلي الزهو والافتخار بالأصول العرقية, والانتصار لنوع محدد من الثقافة باعتبارها الحاوية لكل ما يحتاجه الإنسان في كل زمان ومكان, والاستغناء عن التنوع داخل الجماعة أو خارجها, والسعي الدءوب نحو إثبات قدسية صورة الجماعة كما تراها في مخيلتها, فنحن بذلك أقرب إلي التصور المثالي للجماعة الوطنية. وأي منصف يري الصورة من خارجها يمكنه أن يري بوضوح أن هناك محاولات جادة ومخلصة من المفكرين والناشطين السياسيين والاجتماعيين لتجاوز الأزمات وعلي رأسها التوتر الطائفي, لكن هذه الجهود تعاني من جهتين, فهي من جهة تحاول تقديم الحلول دون أن تجد الوقت الكافي والمناخ المواتي للتفكير النظري والعلمي, وهي من ناحية اخري تقع ضحية للخطاب الزاعق للأيديولوجيات المتعصبة والتي تغذيها سياسات شبه نيوليبرالية مستبدة وقاسية. وعند مأساة النخبة المثقفة والعالمة أنه تم استدراجها إلي ضجيج الفضائيات الإعلامية, وفوضي الشارع السياسي, والصراع اليومي للبقاء في مستوي لائق من الحياة الكريمة, مما أدي إلي استهلاك ما تبقي لها من الحيوية والحرية اللازمة لإنجاز مهمتها التاريخية في أن تكون هداية الأمة, إن كان هناك من يرغب أن تلعب هذا الدور.