كنت أفتح عيني صباح كل يوم, وقبل ان يكتمل صحوي, يكون القلب قد امتلأ بذلك الروع المدمدم في الخارج.. أنفض الغطاء من فوق جسدي, أنهض واقفا, أقفز إلي قعر الغرفة وأمي تنادي:( علي مهلك يا ابني.. علي مهلك).. وأرد ملهوجا:( طيب.. طيب..!!).. ويوقفني صراخ أمي علي عتبة باب الغرفة:( البس الطاقية علي رأسك).. أعود وأخطف الطاقية من تحت المخدة, أحبكها علي رأسي وأطير..!!( اقفل صدرك من البرد).. أنفخ حانقا, أزر طوق جلبابي وأندفع..( ياابني البس جزمتك الاول.).. أصرخ منتحبا يائسا:( طيب ياأمي.. طيب..!!). أدس قدمي في الحذاء المتصلب كقالب مصبوب مفروش بطبقة سميكة من الطين لم يكن له رباط أبدا, أضرب به الارض وهو في قدمي, حتي تنحشر فيه القدم, بعدها أطير خارجا من الدار, قاصدا مكان ذلك الطقس شبه اليومي الرائع, الذي يكون انقضي ما يزيد علي نصفه قبل ان استيقظ.. يعصر قلبي ندم شديد, سرعان ما أنساه بعد لحظات, فسيارة جارنا عبد العال قزامل لاتزال هناك, في الوسعاية, في نهاية الزقاق, والرجال مازالوا يحاولون دفعها بأيديهم ذهابا وجيئة, حتي يسخن موتورها ويدور..!! أقبل علي الجمع, خليط من الرجال والنساء والأطفال, كتلة هائلة من الضوضاء, ساخنة.. منكبة علي السيارة الشيفروليه الخضراء.. أكف الرجال ملتحمة بجسم السيارة.. كل الأذرع نافرة.. العروق متوترة, كل الطواقي منزاحة الي الخلف عن رؤوس حليقة, كل الجلابيب مشمرة عن السيقان, وكل السيقان مزروعة في الارض, تنقلع القدم من مكانها, لتعود ترطمه, صانعة خطوة.. الكتلة البشرية متلاحمة, متحاضنة, متكورة منحنية, تتحرك إلي الأمام بخمسين ساقا أو يزيدون, ومن حولهم النساء والأطفال, يستحثون الجمع علي الدفع وعدم الملل..!! أقتحم تلك الكتلة, أندس بين الرجال كالمسمار في الخشب, ولاأزال أتحرك وأتملص مثل دودة لاهثة مهتاجة, حتي أضع كفي علي جسم السيارة.. أسمع أصوات بعض الرجال تنهرني:( وسع كده ياابني.. وألا روح نام.. إنت دايما حاشر نفسك..!!).. بعدها يقتحم أذني أصوات نسائية:( تعال هنا ياوله.. يعني إنت اللي هاتزودها..؟!). أسمع, ويزداد إصراري.. أشمر جلبابي عن ساقين نحيلتين بين سيقان الرجال, إلا أنهما ممتلئتان إخلاصا.. أرفع رأسي, أنظر فأري عبد العال جالسا في مقدمة السيارة, ممسكا بعجلة القيادة, شاخصا ببصره الي الأمام.. أثبت عيني علي قفاه.. عامود رأسه نازل علي خط كتفيه بعزم.. لا أحول بصري عنه, ودخان احتراق الوقود يملأ عيني ويقتحم صدري, وقلبي موصول بالخشخشات الصادرة من موتور السيارة..!! يتهدج الصوت الخشن متصاعدا في إنفعال, إلي القمة التي أترقبها, وتدريجيا الجسم المعدني الي كيان خفيف في ايدي الرجال, يجرون به مسرورين, يطيرون به طيرانا.. الصخب في الأوج.. سحابة التراب منطلقة في الشارع مع السيارة التي ترفعها الأكوام وتحطها الوهاد, وسط الزعيق وهدير القلوب, وصياح النساء والأطفال.. يوشك الموتور أن يدور.. الشئ يوشك أن يكون, ثم لا يكون...!! يقف الرجال, تنفك قليلا قليلا مفاصل الجمع, ينحل ذلك الاجتماع اللاهث المكتوم إلي ضحكات وكلمات متفرقات متزاحمات.. تترك الأكف أماكنها علي جسم السيارة, يرمقونها ضاحكين أو عاتبين قليلا أو مستشعرين مرارة العجز.. تمتد الأيدي تعدل الطواقي فوق الرؤوس, وتمسح عن الوجوه حبات العرق, وابتسامة عبد العال لاتغيب..!! ينظر إلي الوجوه من حوله.. ينزل من السيارة.. يصفق الباب من خلفه.. يمرق خفيفا خارقا كفهد.. يرفع( كبوت) السيارة فأشب علي أطراف قدمي وأطل برأسي.. أنفاس ساخنة تلفح وجهي.. سحب من البخار تتصاعد من الداخل..يدس عبد العال يده في الجيب الخلفي لبنطاله الكاكي الأزرق, يخرج مفتاحا معدنيا راح يثبت به أشياء.. أو يصل أشياء ويختبرها.. بعدها يغلق( الكبوت) ويعود إلي كرسي القيادة. يعود الجمع للدفع من جديد, تكز الأسنان في تصميم, تمتد الأصوات علي إيقاع متصاعد متعارض مع صخب الموتور, الأمل في قلبي يحضنه الخوف.. اللحظة وشيكة.. أكتم أنفاسي.. ترتجف السيارة من حركة الموتور.. تجري في أيدينا..!!يكاد قلبي يتوقف فرحا, لكني أرتاع حين أري السيارة تفلت من يدي, فأجري.. ألحق بها.. أمسك بالحامل المثبت في مؤخرتها.. أقفز واقفا فوقه مع بعض العيال.. أركن ظهري الي جسم السيارة.. أترك صخب الموتور المنتظم, يتسرب الي كياني.. أنظر فأري وجوه الرجال تبتعد وهم يضحكون في سعادة, وقاماتهم تترنح من التعب, وبعضهم يجري خلف السيارة مناديا أو شاتما أو محذرا:( إنزل ياابن الكلب إنت وهوا.. احسن ما تجيبوا لنا مصيبة..!!) ولكنهم في النهاية يتركوننا ويضحكون وهم يضربون كفا بكف, أنظر فأخمن أن بعضهم يقول:( عندهم حق العيال.. عمرهم ما ركبوا عربيات..!!)أستمريء نشوة الخوف, وأنا أري الأرض تجري بسرعة كبيرة منسحبة إلي الوراء, تحت أقدامنا, بينما البيوت علي الجانبين صامتة الواجهات, والمواشي السارحة الي الغيطان يملن بالرؤوس الكبيرة, والمعزات تتقافز علي المصاطب تستخفها الفرحة, وأسراب البط والأوز والدواجن, فوق أكوام السباخ, تطير مذعورة..!! لكننا نحن الأعلون نضحك, ونتشبث بالسيارة التي تطير بنا, تخلف وراءها الغبار, ويسبقها صوت الزمير, فتتعجب النساء, وتحن قلوب الرجال للسفر, فيما يلوح القاعدون علي المصاطب بأيديهم لعبد العال يتمنون له ولسيارته السلامة..!!وعندما تنتهي البيوت, وتعبر السيارة آخر قنطرة في القرية, مستقبلة الطريق الماضي إلي الأفق, الطريق الذي ينفرش أمامها مستقبلا مطلقا بلا حاضر ولا ماضي, هنا يولد في الكيان المعدني قوة ماردة, تخيفني وتعزل عبد العال بالسيارة عني, فأقول في نفسي:( لازم أنزل دلوقت.. وأرجع القرية..!!) فأقفز, ويقفز العيال واحدا تلو الآخر.. من هول القفزة كنا نجري, نكاد ننكفيء من سرعة أجسادنا التي لا سيطرة لنا عليها.. ترتطم أقدامنا بالأرض في عنف, يخف رويدا رويدا, ويبطيء خطونا حتي نتمالك انفسنا, بعدها نقف وعيوننا متشبثة بالسيارة التي توغل في الأفق بلا تردد, تتبدد وراءها بهجتنا حتي تغيض..!! أعود إلي الدار.. في عجل ألتهم إفطاري وأخرج الي الشارع.. يتلكأ النهار وأتلكأ معه في ساحات اللعب, علي المصاطب وتحت أشجار التوت والكافور..!!عند العصر كنت أتسلل من خلف صفوف المصلين في المسجد, إلي باب المئذنة, أصعد درجات سلمها اللولبي المعتم الي آخره ارتفاع شاهق يديخ.. أنظر إلي السكك وأحدث نفسي:( من السكة دي سافرت العربية, ياتري هي بعيدة وألا قريبة دلوقت.. ؟) ولما كان البصر قاصرا عن طي المسافات الشواسع, كنت أهبط سلم المئذنة بعد لحظات, عائدا إلي فراغ اليوم الموحش, الذي يمتد حتي عودة السيارة في المساء..!! أظل أترقب وقلبي ينهشه الخوف, أترقب وصورة السيارة لا تبرح خيالي,, أتخيل لحظة عودتها.. لحظة ان ينكشف الزقاق عن كشافيها, فاجري خلفها وأضواء مؤخرتها المتعددة الألوان تتخالط دوائر في عيني, أتعلق في حاملها مع باقي العيال, حتي نهاية الزقاق, ونتحلق حولها لاهثين وعيناها تنظران إلي الأمام في ثبات, تفتشان طيات العتمة, تفاجآن الهوام والهواجع فتنتفض مبتعدة عن المكان.. ظللت أنتظر حتي تأخر المساء, وجاءت أمي وجرتني من يدي وهي تؤنبني علي تأخري في العودة الي الدار..!! لم أتناول عشائي, وعندما آويت إلي فراشي رحت أتقلب ساعات طويلة, مفنجل العينين, استرق السمع, أترقب صوت السيارة بين أصوات آخر الليل..!! تأخذني سنة من النوم, يتراءي لي خلالها صور أحلام وكوابيس شتي, وصور سيارات كثيرة, مختلفة الأشكال والأحجام وسيارة عبد العال تندفع من بين السيارات بقوة كبيرة.. تندفع وينبت لها جناجان, تطير بهما فوق الأرض, وما إن صارت بمحاذاة مئذنة المسجد حتي توقف جناحاها وراحت تهوي الي الارض وأنا أنادي بأعلي صوتي:( العربية ياعبد العاااال.. العربية يارجاااالة..!!).. وما إن أوشكت علي الارتطام بالأرض, حتي استيقظت مفزوعا, وأنا أنهج سريعا متلاحقا, فطار النوم من عيني إلي غياب سحيق لايطوله وهمي..!! أجول ببصري في أرجاء الغرفة.. أشعة شمس الصباح الطرية تتسرب من ثقوب النافذة المشرعة علي الزقاق.. أنهض مسرعا مرعوشا.. أتسلل خارجا من الدار.. أقف في الزقاق وعيناي تتثاءبان.. أنظر مشغوفا فلا أثر يدل علي وجود السيارة.. أطير ملهوفا الي نهاية الزقاق لأستطلع الأمر, فلا جود لأحد.. أقرفص علي المصطبة القريبة من دار قزامل وشيء كالهم يطوف بنفسي وأسئلة كثيرة تدق رأسي الصغير دقا:( ياتري العربية راحت فين..؟!... و... ياتري العربية مارجعتش ليه..؟... و... و...؟!) يمر بي أحد الجيران من بقايا فلول الرجال السارحين إلي غيطانهم في الصباح.. ينظر ويضحك قبل ان يقول:( إنت قاعد كدة ليه ياوله..؟!)..ويقترب مني مستطردا قبل أن أرد:( خلاص.. العربية اتباعت إمبارح.. عمك عبد العال باعها عشان يريحكم من همها..!!) وينظر في وجهي وهو يعدل طاقيته فوق رأسه ويضيف:( قوم روح بقي كمل نومك.. وألا شوف إنت هاتعمل إيه..؟!). رمزي بهي الدين الاسكندرية