عانت مصر وعانينا معها حالة السجال الديني علي مدار الأيام الماضية, وتدخل في السجال رجال دين أو محسوبون علي مؤسسات دينية فزادوا الموقف التهابا, وعندما بادر البابا شنودة الثالث بتقديم الاعتذار أو الأسف عما سببه ما ورد علي لسان الأنبا بيشوي من ألم, تولت قناة فضائية مصرية الاطاحة بمبادرته وسكب المزيد من الزيت علي النار بأن حاصر مذيعها البابا شنودة لينتزع منه نفيا للاعتذار الذي تقدم به وتوصيف ما جاء علي لسانه بأنه آسف لما سببه كلام الأنبا بيشوي من جرح لمشاعر المسلمين, والهدف كان الإطاحة بالمبادرة التي تقدم بها البابا شنودة لتهدئة الموقف, فبعد ساعات قليلة علي حديث البابا الجديد, كانت فضائية مصرية خاصة أخري تستضيف سليم العوا الذي تلقف ما جاء علي لسان البابا ليكيل اتهامات جديدة له, ويعيد إنتاج حديثه المتكرر عن وجود السلاح في الكنائس المصرية, ثم يقفز إلي خلاصة ما يريد وهو أن مصر تعيش مرحلة احتقان طائفي وتوتر منذ تسعة وثلاثين عاما بالتحديد وليس أربعين عاما كما طرحت المذيعة ففارق العام يعني أن الفتنة بدأت في مصر مع تولي البابا شنودة وليس مع تسلم السادات الحكم, فالأخير وصل إلي السلطة عام1970, والأول تسلم مهام منصبه في العام التالي. ومن المثير للانتباه هنا أن التحريض علي الفتنة في مصر يأتي من قبل بعض شخصيات تتمتع بمناصب رسمية في المؤسسات الدينية أو لها مواقع مهمة في هذه المؤسسات, يتعاون معهم بعض الصحفيين في وسائل الإعلام المكتوبة, ونجوم فضائيات نكبت مصر بهم, فقد كانت الرسالة أن' دينكم يتعرض للإهانة' تحركوا.... في المقابل لا ينكر أحد أن التوتر وصل إلي قطاعات من المصريين علي أساس ديني, وأن الأحاديث الداخلية كانت متخمة بالانفعال, وأن قطاعات من الجانبين استدعت الصورة النمطية للآخر من الخلفية, وهي صورة متخمة بالمشاعر السلبية والشكوك, كما أن فكرة المؤامرة والانتقام ليست ببعيدة عن مكونات هذه الصورة. وسرعان ما تردد صدي التراشق الطائفي في مصر في المحيط الإقليمي, ففي المملكة العربية السعودية أصدرت هيئة دينية بيانا كالت فيه الاتهامات للكنيسة المصرية, مطالبة بنصرة الإسلام, بينما بادر كتاب ومفكرون يحبون مصر الدولة والنموذج, إلي مخاطبة العقلاء من المصريين لبذل الجهد من أجل وقف السجال الطائفي, فمصر هي النموذج والقدوة, ووقوع صدام طائفي في مصر سوف يمس بنموذج التعايش الديني في المنطقة, ومن أبرز من أطلقوا هذه الدعوات صالح القلاب وزير الإعلام الأردني السابق. في المقابل تحركت قطاعات من المصريين ممن تسبق مصريتهم انتماءهم الديني, وطالبوا بوضع حد للسجال الطائفي الذي لا يخلو من شبهة مسعي إلي حرق الوطن, تحركت شخصيات مصرية وطنية وطالبت أولا بوقف سيل التصريحات الصادرة علي لسان رجال الدين من الجانبين, وطلبت من وسائل الإعلام المصرية عدم نشر ما يرد من شطط علي لسان بعض رجال الدين, فالقاعدة العريضة من المصريين مسلمين ومسيحيين لم تستجب لتحريض بعض رجال الدين من الجانبين, ورأت أواصر المواطنة المشتركة ما يستحق تأكيده ودعمه ربما بانتظار مبادرة من العقلاء والحكماء لإغلاق ملف السجال الطائفي أولا ثم وضع خطة وطنية تمنع تكرار ما حدث من خلال صياغة رؤية وطنية مشتركة أو عقد اجتماعي جديد, ينهض بالأساس علي رابطة المواطنة لا الدين, يرقي من دور المادة الأولي في الدستور, ويجعل منها محور المواد الأخري, يحفظ للدين دوره باعتباره قيمة مقدسة في حياة الإنسان, رابطة بين الإنسان وخالقه, لامجال لتدخل الدولة فيها, أي أن تكون الدولة محايدة دينيا, فرابطة الوطن هي الأساس, والدولة لا تتدخل في الرابطة بين العبد والرب, فللعبد عبادة الرب وحسابه في الآخرة, و لا مجال هنا لأن تنوب الدولة عن الرب في محاسبة العبد أو تبذل الدولة جهودها من أجل إدخال العبد إلي الجنة, فدخول الجنة أو النار هو قرار فردي يتخذه الفرد ويدفع ثمنه بمفرده. في المقابل فإن هذه الصيغة لا يمكن أن تستقيم إلا بإبعاد رجال الدين عن مشاهد الحياة المدنية, فلا دور لهم في تحديد مكونات رابطة المواطنة, ولا ننتظر فتاوي أو آراء في شئون الحياة المدنية, لقد ارتكبنا أخطاء كارثية عندما طلبنا من رجال الدين فتاوي وآراء في قتل الكلاب الضالة أو إبادة الخنازير أو نقل الأعضاء وغيرها من قضايا مدنية وأخري تخص العلم وتطبيقاته أو الصحة العامة, ومن ثم فقد آن الأوان للتوقف تماما عن مثل هذه الأفكار. أيضا لابد من تأكيد أهمية إعادة ترتيب الفضاء الإعلامي مجددا من أجل تفعيل مكون في ميثاق وطني للشرف الإعلامي, يخلو من الاعتبارات السياسية والأمنية, ويعطي الأولوية لضمان توثيق وتطبيق العقد الاجتماعي الجديد, وفي مقدمة مبادئه التوقف تماما عن استضافة رجال الدين للسجال الطائفي أو لأخذ آرائهم في قضايا المجتمع, فالمكان الطبيعي لرجال الدين هو دور العبادة, المسجد والكنيسة, يتولون شرح الدين, تفسيره, ترقية الحس الإنساني, تنفيذ إرادة الله علي الارض بنشر المحبة والتسامح...وأن يتولي كل منهم شرح وتفسير ما لديه من آيات( قرآنية) و(إنجيلية) وأن يتوقف عند حدود عدم التدخل فيما يخص عقائد الآخرين, فالأولوية هنا تكون لتفسير وشرح الدين, وعدم الخوض في عقائد الآخرين, وكل ما نطلبه من رجال الدين هو احترام عقيدة الآخر ومقدساته كما يراها المؤمنون بها... جميعنا يدرك أن أخلاق المصريين وأذواقهم, قيمهم وأعمالهم في الستينيات كانت اكثر رقيا منها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين, ويومها لم يكن المصريون غارقين في مظاهر التدين الشكلي ولا كانوا في حاجة إلي فتاوي المؤسسات الدينية ورجال الدين ليبرروا لهم أعمالا هي بالقطع غير أخلاقية وغير وطنية. باختصار الخطوة الأولي علي طريق وقف السجال الطائفي وتهدئة الاحتقان تتمثل في إعادة رجال الدين إلي دور العبادة ليتفرغوا لمهام التعبد, شرح صحيح الدين, الرقي بمشاعر وأحاسيس العباد, حض العباد علي إتقان العمل, التراحم والتعاضد بين البشر....أما ما يخص تنظيم الدولة والمجتمع, فشأن آخر هو للبشر الذين يحملون جنسية واحدة, يستظلون بمظلة الوطن وفق رابطة المواطنة القائمة علي الجنسية فقط, فالوطن يظلل أبناءه ولا شأن له بما يعتقدون أو ما يؤمنون فذلك صلة بين الفرد وربه لا دخل للمشرع بها.