مهداة إلي نفسي المعذبة دون أجر مثلها مثل الأوطان التي تباع بلا ثمن.. فكان لزاما عليها أن تموت بلا كفن. راحت عيناه ترتفعان, ثم تهبطان, تتجهان يمنة ويسرة, تحتضنان في حب وحنان, كتبه المتراصة بكثرة, فوق أرفف مكتبته, التي غطت جدران حجرته عن أكملها, همس في تمن: آه.. لو أمكن لي أن تدفن معي هذه الكتب, وكل ما كتبته من قصص قصيرة, وروايات.. هذه الكتب التي صاحبته في مراحل عمره المختلفة, بدءا مما تركه له أبوه من كتب في التراث, تكاد تعد علي أصابع اليدين فراح يلتهمها جميعا, ومن ثم راح يبحث عن غيرها حتي تكونت هذه المكتبة الضخمة الزاخرة, العامرة بأمهات الكتب وحتي صارت فيما بينها صداقة قوية, مد يده إلي علب البرشام, الجالسة فوق بعضها, مختلفة الألوان, والأنواع, راح يفتح العلبة تلو الأخري, يخرج أقراص دوائه الذي يتجرعه ثلاث مرات يوميا, وضع كوب الماء جانبا, وراح يحدق في علب الأدوية, تخرج من بينها كلمات طبيبه التحذيرية, في آخر زيارة له: ( أرجوك أن تبتعد عن كل مايثير غضبك, ويجدد أحزانك, أرجوك حب ذاتك, فذاتك جديرة بأن تحب حب, وتزوج لتنجب من يحمل اسمك, ويشاركك في حمل حزنك) لحظتها تنحي جانبا, بعدما اكتسي وجهه بأحزان العالم بأسره ثم همس بصوت شبه مسموع: ( كيف استريح, والوطن العربي بأسره أسير القرارات الأمريكسرائيلية, فأنا جندي مجهول, أحارب بقلمي قدر المستطاع, ثم كيف أتزوج بامرأة تشاركني حبي للكتاب ؟! والأدب, الابداع, لقد أحببت الأدب, وتزوجت الأدب) غاضبا صرخ الطبيب في وجهه, محذرا إياه: ( حرام عليك, أنت لست بدولة, أنت فرد من أفراد هذا الشعب, ومن حقك أن تضحك, وتخرج لتشاهد أحدث الأفلام السينمائية وتجالس أصدقاءك لتتبادلوا آخر النكات, لقد جئت لي أول مرة, وبالكشف عليك اكتشفت أنك مصاب بالسكر, ولأنك لم تنجح في طرد الحزن المتغلغل بداخلك, أصبت بالضغط, ولأنك لم تستطع طرد الهم العربي من فكرك ومن كتاباتك, أصبت بفيروس سي, هذا ما جنيته من الهم) آه ه ه ه ه ه ه قالها المؤلف, وهو يهب واقفا من مكانه متجها صوب مكتبه ضاربا بكل التحذيرات عرض الحائط, وقبل أن يجلس, رن جرس تليفون المنزل, أسرع اليه: نعم.. يأتيه الصوت: منزل الكاتب الكبير الأستاذ..... نعم.. أنا لو سمحت, وتكرمت, وتعطفت علينا, بزيارتك الكريمة في اتحاد الكتاب لبضع دقائق, بضع دقائق فقط, حتي تتسلم الشيك الخاص بسيادتك.. تهلل وجه المؤلف بابتسامة عريضة, ثم راح يقول: علي الرحب والسعة.. أشكرك وضع السماعة مكانها, الابتسامة العريضة لم تفارق وجهه, جلس يفكر في أمر هذا الشيك المنتظر, بعدما أقنعه أصدقاؤه أخيرا بأن يقوموا بتصوير, روشتاته, وأشعاته, وكل التقارير الطبية, التي تثبت صحة مرضه, لتقديمها الي اتحاد الكتاب, الذي هو عضو فيه منذ إنشائه, لصرف معونة عاجلة له, ورغم أنه كان يرفض ذلك في كل المرات السابقة, بعد شعوره بأنه متسول, ولكن أصدقاءه نجحوا في إقناعه: ( هذا حقك الشرعي) ورد آخر: ( ثم إن حاكم الشارقة تبرع ب(20) مليون جنيه لعلاج الكتاب) 2 هنا ياأسطي... قالها المؤلف لسائق التاكسي, نزل, وقف أمام المبني, راح يتأمله طويلا متذكرا آخر مرة دخل فيها مبني الاتحاد, قبل ان يهده المرض, رغم أنه يحافظ علي انتمائه له, من خلال تجديد الكارنيه كل عام, بمساعدة أحد الأصدقاء.. جاهدا حاول أن يدخل جسده النحيل الممصوص كعود القصب من بوابة الاتحاد الصغيرة, التي ابتلعتها هذه العربة الفارهة راح يصعد السلم, وهو ينظف ملابسه, بعدما نجح في الدخول, راحت عيناه تتحركان في سعادة يمنة ويسرة, في آلية منتظمة, وهو يشاهد ما استحدث علي المبني من إضافة حتي وجد نفسه يقف أمام إحدي الحجرات, المكتوب علي جانبها الأيمن( السكرتارية).. مبتسما دلف داخلها: من فضلك.. جئت لتسلم شيك.. ما نوع الشيك..؟! هربت الابتسامة من وجهه, عقدت الدهشة لسانه.. أعاد عليه الموظف السؤال مرة ثانية.. قال في ألم بصوت هامس, وعيناه المنكسرتان تجوبان في أرجاء المكان: إعانة مرضية.. سأله الموظف عن اسمه وهو يفتح درج مكتبه, راحت أصابع الموظف تبعث داخل الشيكات, الكثيرة المكدسة فوق بعضها, ثم تبسم في وجهه, وراح يقول: تمام.. تمام.. الشيك موجود بحمد الله.. فتح الموظف دفترا كبيرا, قابعا أمامه, وطلب من المؤلف أن يوقع, مد المؤلف اصابعه المرتعشة, وراح يوقع علي التسليم, غمرته فرحة كبيرة, عندما وقع بصره علي قيمة الشيك المكتوبة بالأرقام, حبيسة القوسين(9775) أعطاه الموظف ظرفا صغيرا ناصع البياض, مغلقا مكتوبا عليه من الخارج اسم المؤلف, ثم أخبره بالذهاب الي أي فرع ل( بنك مصر) لصرف الشيك, وقف المؤلف سعيدا ينتظر قدوم التاكسي, توقف التاكسي, فتح الباب, وقبل ان يركب المؤلف, التفت الي لافتة اتحاد كتاب مصر, وراح يحدث نفسه في سعادة: تعيشي يامصر, ويعيش اتحادك الذي يقدر الأدباء.. انطلق التاكسي.. (طير بينا ياقلبي, ومتقوليش السكة منين, دا حبيبي معايا ومتسألنيش رايحين علي فين) سعيدا.. وجد المؤلف نفسه يردد كلمات الأغنية الخارجة من كاست التاكسي.. 3 وقف المؤلف في الطابور الطويل, الذي راح يتناقص في بطء شديد منتظرا في لهفة الوقوف أمام صراف البنك تعجب الواقفون بجوار المؤلف, وهم يرونه يحدق تارة في الشيك النائم بين يديه كطفل رضيع, ذلك الشيك الذي يرفض فتحه إلا بيد الصراف, وتارة أخري يحدث نفسه بصوت مهموس لا تسمعه إلا ذاته المنهكة: أحمدك يارب علي هذا المبلغ الذي قارب علي العشرة آلاف جنيه, سوف أغلق أفواها كثيرة, منها ستة شهور إيجار متأخر, فلوس البقال, الذي هددني بعدم التعامل معي إذا لم أسدد ديني, شراء أدوية كثيرة تكفيني لشهور كثيرة قادمة, ودفع قيمة ثلاث فواتير للكهرباء, وخمس فواتير للمياه و..... نعم ياأستاذ... قالها الصراف, ليخرجه من دوامة فكره, مبتسما مد اليه يده بالشيك الملتصق بأصابعه, المصحوب, فجأة وجد المؤلف أصابعه تأكله بشدة, فراح يقبلها ثم يفركها في بعضها البعض, وهو يردد في همس: يامسهل ياكريم يارب.. وقع هنا... أخرج المؤلف قلمه الذي لم يفارقه لحظة وراح يكتب اسمه, فوق ظهر الشيك النائم علي وجهه فوق الرخامة.. تفضل.. مد الصراف يده بالفلوس نحو المؤلف, وراح يعدها عليه في صوت مسموع: خذ خمسين جنيها, عشرين, وأيضا عشرين, ثم جنيهان وخمسة وسبعين قرشا, ليصبح المجموع اثنين وتسعين جنيها وخمسة وسبعين قرشا, قيمة الشيك المنصرف.. سريعا تهرب الابتسامة من وجه المؤلف, وجلس متربعا في حزن وحيرة شديدين, مما دفعه ليقول مستفسرا: ماهذا..؟! متعجبا راح يجيبه الصراف: قيمة الشيك المنصرف, بعد خصم جنيهات من قيمة الشيك تبرعا منك لمعونة الشتاء.. في حدة قال المؤلف: لا.. حضرتك تقصد تسعة آلاف وسبعمائة وخمسة وسبعين جنيها, هي قيمة الشيك.. تبسم الصراف, ابتسامة لا لون لها ولا طعم, ثم يقول: ربما لم تر حضرتك العلامة العشرية, التي وراء السبعة وتسعون جنيها.. ثم مد إليه الشيك كي يطلع علي العلامة العشرية.. راح يحدق طويلا, طويلا, طويلا, في العلامة العشرية التي أنسته فرحته رؤيتها, تبسم في وجع الصراف, وقال له وهو يغادر الصف: أنا آسف.. راح المؤلف يخطو خطوات بطيئة متثاقلة, وهو لم يرفع عينيه عن قيمة المبلغ المنصرف, توقف برهة عندما وجد قدميه لا تقويان علي حمله, راح يفكر, ويفكر, ويفكر في قيمة الشيك الذي انتظره طويلا كليلة القدر, همس وهو يجفف عرقه الذي لم يتوقف لحظة واحدة منذ أن طلب منه الصراف النظر في العلامة العشرية: كيف هذا.. ؟! هل أنستني فرحتي رؤية العلامة العشرية, وأنا أوقع لموظف الاتحاد..؟! أو السبب الحقيقي يكمن في المرض اللعين الذي أكل ما تبقي من رؤيتي, هاء.. هاء.. هاء.. سبعة وتسعون جنيها وخمسة وسبعون قرشا, في حين أني أخرجت من جيبي, عشرين جنيها ل اتحاد كتاب مصر رسوم فحص التقارير الطبية, وعشرين جنيها لموظف الاتحاد لقيامه مشكورا بالاتصال بي, وأربعين جنيها قيمة ركوب التاكسي الي الاتحاد ومنه الي البنك, وسوف اشتري كارت شحن للموبايل, فئة العشرة جنيهات, حتي يتسني لي شكر مجلس إدارة الاتحاد, علي ما بذلوه من اجتماعات وإمضاءات, حتي خرج الشيك الي النور, إذن لم يتبق من قيمة الشيك غير خمسة وسبعين قرشا بالتمام والكمال.. لله يابني.. ربنا يقويك علي ما أنت فيه.. نظر المؤلف الي المتسول الواقف أمام البنك, وراح يحدث فيه طويلا, طويلا, طويلا, تعجب المؤلف عندما رأي وجه التشابه الكبير فيما بينه, وبين هذا المتسول الاختلاف الوحيد فقط هو فيما يرتديه كل منهما لله يابني... ربنا يقويك علي ما أنت فيه... مد المؤلف أصابعه المرتعشة نحو يد المتسول الممتدة أمامه طول ذراع, ليضع في كفه ال خمسة وسبعين قرشا هي باقي قيمة الشيك المنتظر..!!!!!! محمود أحمد علي الشرقية