كان لمحمد صالح قول مأثور اشتهر به بين أصدقائه هو:' هانعمل إيه في المرحلة اللي جايه؟'.. كان يردد هذا السؤال دائما ودون سبب واضح, وكان مفهوما أنه يعني بسؤاله ضمنا: ماذا سيفعل ازاء الشعر الذي كان غارقا ومستغرقا فيه آناء الليل وأطراف النهار. والآن, وقبل أن يمر شهران علي رحيله, سارعت دار' كيان' بإصدار آخر مجموعاته الشعرية' لا شيء يدل', وبهذه المجموعة ينتهي سؤال محمد صالح الدائم, فقد اكتملت الدائرة:67 عاما وست مجموعات شعرية هي علي التوالي:' الوطن الجمر'1984,' خط الزوال'1992,' صيد الفراشات'1996,' حياة عادية'2000,' مثل غربان سود'2005, وأخيرا' لا شيء يدل' التي صدرت بعد رحيله مباشرة. والحقيقة أن محمد صالح الذي عرفته علي مدي ما يقرب من أربعة عقود متواصلة طراز نادر من الشعراء الذين لا تنفصل حياتهم عن شعرهم, فقد كان يعيش ويتنفس ويعمل ويتحرك بوصفه شاعرا. والمفارقة أنه علي الرغم من ذلك كان أقل أبناء جيله وربما الأجيال اللاحقة عليه شهرة وتحققا إعلاميا, والمعروف أنه قبل رحيله بنحو عشر سنوات, طلبت منه الزميلة والصديقة بركسام رمضان الدراسات والمقالات النقدية المكتوبة عن شعره قبل أن تجري معه حوارا صحفيا, وكانت المفاجأة أنه ليس لديه أي شيء مطلقا, حتي الدراسة الوحيدة أكرر الوحيدة التي كتبها عن ديوانه الأول الراحل عبد الحكيم قاسم ونشرت في مجلة ابداع فقدت من محمد صالح. والمفارقة أن أغلب ما كتب عن محمد صالح وتجربته الشعرية جري بعد رحيله, وبدا الأمر عبثيا تماما: أين كان هؤلاء الذين كتبوا عنه منذ ديوانه الأول' الوطن الجمر'1984 ؟.. ولكن الأهم أنخ كان مستغرقا في البحث عن' القصيدة' التي لم يتخيل أنه قد اقترب منها, وظل بعيدا بتعمد شديد عن ماكينة العلاقات العامة وشبكة المصالح الصغيرة( لم يسافر محمد صالح مع مهرجانات الشعر والنثر التي تقام طوال شهور السنة إلا مرة واحدة الي المغرب منذ أعوام قليلة). عمل محمد صالح بالصحافة منذ بضعة عقود, وكانت لديه الحيثيات اللازمة لتزييت ماكينة العلاقات العامة لينتشر وتجري الطنطنة حوله وحول شعره, لكنني أشهد أنه كان يحتقر هذه الماكينة, وأصر طوال سنوات عمره علي أن يكون التحدي الوحيد أمامه هو الشعر ولا شيء غير الشعر, وكان من بين أقواله المأثورة أيضا أنه لا يقف في أي طابور, وبالفعل لم يقف صالح في الطابور أو في الصف, ودافع من خلال الشعر عن قيمة الشعر, وعن معركته مع الشعر, والتي قادته من خلال التجربة وحدها الي الانتقال من قصيدة التفعيلة الي قصيدة النثر القائمة علي الاستبعاد, ثم المزيد من الاستبعاد, وصولا لجوهر لا يدري هو نفسه كنهه, مع استغناء متعمد عن القعقعة والصلصلة اللغوية, أي التقشف والمزيد من التقشف, وهو ما قاده لابتداع طريقه الخاص نحو' القصيدة'. وامتد استغناؤه الي الجوائز وألوان التكريمات والمقالات المحلاة بالصور والمقابلات الصحفية وغيرها وغيرها.. وفي مجموعته الأخيرة' لا شيء يدل' كتب صالح تسع عشرة قصيدة لا تزيد أغلبها عن سطور قليلة, بدا فيها واضحا أنه يلملم أوراقه استعدادا للرحيل. وتلك القصائد القصيرة بل البالغة القصر, تبدو وكأنها ومضات وعلامات لحياة غاربة. يستدعي الشاعر قريته محدقا الي شجرة التوت التي أورقت وارتفعت عاليا, ويتذكر عندما حملها منذ زمن طويل أول الربيع وزرعها هناك. ثم يتوقف عند النسوة وهن يحملن أطفالهن المعلولين الي ضريح الولي لينال أطفالهن الشفاء. ويقفز الي سن العاشرة عندما تعين عليه أن يكتب الأغاني لشقيقه الأكبر الذي قرر فجأة أن يصبح مطربا, ثم يطل اطلالة سريعة علي مدرسته الي اختفت ولا شيء يدل عليها.. وهكذا تمضي الومضات الخاطفة كعلامات تختفي سريعا بينما يشير نحوها محاولا التعرف عليها. هناك البهجة الخاطفة للصبية في الظهيرة وهم خلف السد الطيني بأسماكه وأصدافه, وهناك أيضا امرأتان لا تخلوان من التهتك وتستخدمانه لقراءة جرائم الخيانة الزوجية في إحدي الصحف السيارة. ربما كانت قصيدته' سرعان ما يأتي الصيف' الأكثر دلالة عما أود التعبير عنه, فهي تلملم بين سطورها الحياة بكاملها عبر ثلاث ومضات هي في الحقيقة ومضة واحدة متتابعة, فالكراكات تأتي لتطهر مجري النهر في أول الصيف ليتغير كل شيء' لكننا سرعان ما ننسي الصيف', كما تأتي البلابل تبني بيوتها وتضع بيضها' لكنها سرعان ما تطير في الصيف', وأخيرا ترفع فتاتان أذيال ثيابهما وتخوضان في الماء الرائق مثل بللور' لكنه سرعان ما يعتكر في الصيف'. ويواصل الشاعر مشيه الهويني متلفتا بين الحين والآخر ليتوقف عند' سكة البحر' مكان اللقاءات المختلسة بين الصبايا حاملات الجرار وعشاقهن.. وفي هذا المكان نفسه كما كتب:' كمن أبي لأمي رفع الجرة عن رأسها وحملها الي الدار' أو يتوقف في' النول والدولاب' عند مشهد الحجرة التي يجلس الأخ الأكبر فيها معطيا ظهره الي الحائط يعمل علي النول, بينما يجلس الأخ الأصغر معطيا ظهره للباب يدير الدولاب وينسجان معا' مقاطع زاهية من قطن مصبوغ' والحال أن كل قصيدة تكتسب وجودها وفرادتها, ليس فقط من خلال القصيدة ذاتها, بل من خلال علاقتها أيضا باللوحة العريضة التي ترسمها القصائد جميعا. تبدو القصائد إذن وكأنها نقاط متوهجة للحظات الطفولة والصبا الغارب. فالفردوس مثلا في القصيدة التي تحمل الاسم نفسه يراه الشاعر علي النحو التالي: 'يزرع الرجل قطعة أرض/ علي الشاطيء الأخر/ يزرع مالا نزرع هنا/ يزرع الرجل فاكهة/ وقصب سكر/ ويعيش وحده في كوخ هناك/ يشعل نارا من حطب أشجاره/ ويضع إبريقه علي طرفها'. ليست هذه النقاط المتوهجة والومضات السريعة لوحات بالألوان الطبيعية للريف السعيد الزاهي بخضرة حقوله وأشجاره بطبيعة الحال, بل هو الريف الذي يعرفه الشاعر. ريف يموت فيه الفلاحون بالأوبئة والكدح المتواصل, يبحث من خلاله عن' شعرية' مختلفة امتلكها صالح بقوة, لكنه أنفق عمره تقريبا ليمتلكها علي هذا النحو الفادح من البساطة واليسر والسلاسة. فاللغة الرصينة العارية من الظلال, والحريصة علي أقل عدد ممكن من المفردات ليست مصادفة بأي حال من الأحوال وإذا كانت هذه هي الحياة التي أراد الشاعر أن يتوقف عند بعض ومضاتها, فإن الحياة الأخري في القصيدة التي يختتم بها محمد صالح آخر أوراقه هي كالتالي:' لو حدث هكذا/ يكون شيئا حسنا/ تفتح الباب وتجدني/ باب الشرفة مفتوح/ الشمس في منتصف الصالة/ وأنا مستلق هناك/ ساقاي بطولهما علي الطاولة/ الكتاب في حجري/ والي جواري سجائري' هذه هي أوراق محمد صالح الأخيرة, تليق بشاعر كبير حقا, ترك لنا تجربة عميقة الغور علينا أن نعيد اكتشافها, بعد أن أهملناها في حياته.