وردا علي خطابي البنا أرسل السكري خطابا طويلا فند فيه الرجل كل دعاوي الشيخ المؤسس وأوضح بجلاء حجم انتهازيته وصلفه. يقول السكري: أخي المحترم الأستاذ حسن البنا السلام عليكم ورحمة الله وبعد, لقد تسلمت خطابيك المرفقين معا, أحدهما ما أسمته خطابا رسميا تفصلني فيه من جماعة الإخوان المسلمين, مستندا في هذا الإجراء كما تقول إلي تفويض الهيئة التأسيسية لك أن تقصي من تشاء أو تفصل من تشاء بغير حساب والثاني خطابك المطول الذي حددت فيه الاسباب التي دعتك إلي فصلي ثم طلبت إلي فيه أنا استقيل أنا بيدي من دعوتي التي نشأت فيها ولها, وإلا فلا مفر من قبول خطابك الرسمي الذي تقطع به صلتي بهذه الدعوة وبإخواتي الأعزة الأبرار: تنكر: ولا أكتمك الحق يا أخي ما كنت لأتصور يوما من الايام أن يبلغ بك الأمر, فيطاوعك قلبك وضميرك وتطاوعك هذه العاطفة التي دامت بيننا سبعة وعشرين عاما كانت المثل الأعلي لوفاء المحبين وإخلاص المؤمنين, وتنسي كل ذلك في طرفة عين وكأنك تريد أن يشهد الناس مأساة أليمة ما كان لأمثالنا أن يبتلوها ونحن دعاة الإخاء والوفاء والخلق, وكأني بك أيها الأخ قد شعرت الآن بما أنت فيه من صيت زائل, ومن عز الدنيا واقبال اهلها عليك, فأحسست بالغني, والغني الحقيقي هو بالله لا بالناس, وأحسست بالاعتزاز وأن العزة لله ولرسوله والمؤمنين, فأردت أن تبطش بأخيك الذي عاش معك أكثر من ربع قرن من الزمان, وجاهد في رفع هذا اللواء ما وسعه الجهد والجهاد, عرفك بالمحمودية يافعا لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرك وكان هو في سن العشرين واستعان بك أول الأمر في الدعوة المباركة, حتي اذا ما صلب عودك وأتممت دراستك وزاولت عملك بالإسماعيلية وأنشأت بها شعبة أخري, وفتح لكما القلوب وتعددت فروع الجماعة, آثرك علي نفسه, وبايعك علي الرياسة وطلب إلي الناس ان يبايعوك حتي ارتفع نجمك, وأينع هذا الثمر الذي رويناه بدمائنا وأرواحنا وما علم الناس وما علمت عن أخيك هذا إلا ما يرفع شأن الدعوة وشأنك وظل وما زال حتي يلقي الله طاهر القلب عف اليد, قويا بالله مستعينا به جل علاه, وله سبحانه الفضل والمنة والحمد الجزيل: فلما أقبلت الدنيا عليك كان لك الناصح الأمين والمشير العادل فينبهك إلي مواطن الخير لتسلكها وإلي مواطن الشر لتجنبها, فإذا سرت علي الهدي وسار معك بكل جهده وقوته, ما استبد الهوي وبرز قرن الفتنة, نصح وألح في النصيحة راجيا ان يهدي الله إلي الحق وأن يعود القائد إلي صوابه فيعود التوفيق إلي ركابه أفيكون له منك يا أخي جزاء سنمار, بدل أن تنتهج الخطة المثلي, فتكن من المصطفين الأخيار. اسباب الفصل: لقد حددت في خطابك المطول الأسباب التي دعتك إلي فصلي وهي كما تقول ثلاثة: اولها أننا اختلفنا في أسلوب التفكير وتقديم الظروف والأشخاص والأحوال. ثانيها أننا اختلفنا في وسائل العمل. ثالثها أننا اختلفنا في الشعور نحو الاشخاص. هذه هي الأسباب الثلاثة التي دعتك إلي أن تختار هذا الظرف بالذات لتفجر هذه القنبلة, وتقطع ما أمره الله به أن يوصل ولعل الناس حين يطلع عليهم هذا النبأ, ولعلل الاخوان حين يفجعون بهذا الخبر, لا يدرك أكثرهم السر في اختيارك هذا الظرف بالذات لهذا الإجراء الشاذ الاليم. وإني لأحمد الله علي أن هذه هي الاسباب التي دعتك إلي فصلي, فلم تستطع ولن تستطيع أن تنسب إلي ما يخدش أمانتي لدعوتي, أو يمس شرفي أو كرامتي التي أحيا بها وأعيش. وانه ليعز علي ويؤسفني كل الأسف أن اضطر إلي الرد عليك بعد أن فشلت جهود وسطاء الخير بيننا من خيرة الرجال وكرام الأخوان حتي مساء أمس بسبب تمسكك بموقفك ورفضك إنتهاج الخطة المثلي التي تصلح ذات بيننا وتحقق للدعوة أهدافها الكريمة وتصونها من عبث العابثين, ثم تماديك في إطلاق ألسنة السوء في الأقاليم للتشويه من سمعتي والحط من كرامتي زورا وبهتانا, مما لا يسعني إزاءه إلا أن أوضح الحقيقة في كثير من الإيجاز والاختصار, ليكون الناس والإخوان علي بينة من الأمر إبراء لذمتي وإعذارا لله ولهم بعد ان عجزت عن تقويم ما اعوج وإصلاح ما فسد ضرورة التحكيم: ولقد كنت أفهم يا أخي لو لم تسيطر عليك العناصر المغرضة وتضغط علي يدك لتقطع يمينك بنفسك أن يفضي هذا الخلاف في الرأي إلي أن نحتكم إلي إخواننا في الله اصحاب هذه الدعوة والمضحين في سبيلها في كل قطر ومكان, ليقضوا بيننا بروح الإسلام ومنهاج القرآن وإنا لحكمهم خاضعون, ولعمري هذا ما أوصي به الإسلام وفرضه القرآن فإن تنازعتم في شيء فردوه إلي الله والرسول, وأصلحوا ذات بينكم, فأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين, ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات, الخ ما ورد في كتاب الله حثا علي التحكيم والاصلاح وترهيبا من الفرقة والشقاق, كما كنا نهييء للاخوان الكرام سبيل الإستنارة بأسباب الخلاف فلا يتعدي محيطهم إلي الرأي العام, وكنا لا نحرمهم من ثواب الله اذا وفقوا لاصلاح ذات بيننا وان احببت كذلك فإلي ذوي الرأي من أفاضل رجال العروبة والإسلام ليكون الجميع علينا شهودا.. استبداد: أما انك تستبد وحدك بالأمر, وتنتزع ممن حضر من إخوان الهيئة التأسيسية يوم9 يوليو الماضي ورغم معارضة ذوي الرأي منهم تفويضا بإقصاء من تشاء وفصل من تشاء هربا من التحكيم وفرارا من مواجهة الموقف, ودون تمكين من تتهمه أو يتهمك من إبداء رأيه والدفاع عن نفسه, فإن هذه ديكتاتورية يأباها الإسلام وتأباها الشرائع والقوانين, وتتنافي مع المنطق والخلق فإن قلت ان مبايعة الإخوان لك تقتضيك التصرف الفردي في شئون الدعوة وشئونهم فإن الحق يرد عليك في ذلك بأن البيعة هي في حدود ما أنزل الله وما رضي عنه لا في تحكيم الهوي والخروج علي المبادئ ومسايرة أهل الدنيا علي حساب الدعوة وأبنائها المخلصين. وأمامك سيدك ومولاك صلي الله عليه وسلم كان يستشير أصحابه في الأمر وأمرهم شوري بينهم وكان يرجح أحيانا رأي صحابته وأنصاره حتي في أخص شئونه هو ومسألة الخباب في غزوة بدر وحادثة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وغيرهما كل ذلك سجله التاريخ في صفحات الرسول المشرقة الوضاءة, وهكذا كان قادة الاسلام واصحابه ما استبد أحدهم بأمر ولا حكم هواه في شأن والحق أبلج, والإسلام واضح المعالم لا يقف مع الهوي ولا يخضع لشهوات النفس واستبداد الآراء. عهد ووعد: يا أخي لقد سارت سفينتنا طوال هذه المدة وسط الأنواء والأعاصير, ولكن كانت بسم الله مجراها ومرساها وكانت تعبر عباب محيط الحياة الخضم وتشق موجه المتلاطم الضخم, غير مبالية برياحه الهوج, ولا متلكئة عند شطآنه الملتوية وضفافه العوج, حتي بهرت الأنظار, وأخذت بمجامع القلوب والأفكار, كيف لا والله كان غايتها والرسول ربانها والقرآن دستورها والجهاد سبيلها والموت في سبيل الله اسمي أمانيها كانت كذلك فما بالها اليوم تتعثر في كل واد وتكاد جذوتها تتحول إلي رماد, وأخذت ترتطم بالصخور ويكاد يفقد قادتها الهدي والرشاد والنور...؟ بل ما بال هذه الجرذان والحشرات قد قفزت إلي قاع السفينة تفسد الغذاء الصافي وتلوث البلسم الشافي, وتنهش جدرانها فتكاد تغرق في اليم السحيق, ومن هنا يا أخي نشب الخلاف بيني وبينك. أسباب الخلاف الحقيقية: تقدمت إليك بالدواء, أرجو به الإنقاذ والشفاء فأخذتك العزة وأشحت بوجهك وقربت إليك أهل الفساد ورميت بالدعوة في أحضان السياسة والسياسيين وضحيت بأهل الرأي والإخلاص والسداد. نعم رأيت الصف قد إعوج وحدثت أمور داخلية وأخري خارجية, لم يرض ضميري إلا أن أقف منها موقف الناصح الأمين, والحريص علي دعوته والحارس لرسالته ووازنت بين أمرين أحلاهما مر: إما أن أعلن غضبي واتنحي كما فعل بعض الأخوة الأعزة الكرام, فيزداد الحال سوءا والفساد تأصلا, وإما أن أصبر وألح في النصيحة عسي آن يستقيم الأمر, ففضلت الثاني وآثرت الإنتظار علي أمل غلبة الحق وإصلاح الحال, وإذا بك يا أخي لا تبالي بصيحات الأحرار, بل عملت علي إقصائهم الواحد تلو الآخر ولم تبال كذلك بما نسب من المسائل الخلقية إلي بعض من صدرتهم للقيادة والإرشاد بعد أن ثبت ما ثبت, واعترفت أنت بما وقع( في إشارة إلي ما حدث من عبدالحكيم عابدين صهر حسن البنا) وماذا كان عليك, ونحن دعاة الفضيلة والأخلاق لو اصغيت إلي قول الرسول صلي الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها وتضرب بذلك المثل الأعلي في الإنتصار للحق ولو علي أنفسكم أو الوالدين والأقربين. تدهور وانزلاق: ولم تكن المسائل الخلقية وحدها بيت الداء بل وجدت الدسائس والفتن الداخلية والدعايات الباطلة ضد الأحرار وارتباك النظم وفساد الإدارة مرتعا خصبا داخل صفوفنا فإذا ما أضفنا إليها أمرين رئيسيين استطعنا أن ندرك سر ما وصلنا اليه من تدهور واضطراب لا يخفيه هذا الطبل الأجوف والدعايات الفارغة التي تمتلئ بها الجريدة كل يوم....! أما هذان الأمران فهما: (1) دخول بعض العناصر الانتهازية المأجورة في صفوفنا يإيعاز من رجال السياسة وتدخل ساداتهم في شئوننا وتضحيتك بأغلي رجال الدعوة في سبيل رضاهم. (2) الإغراق في السياسة الحزبية تبعا لذلك إغراقا تاما وتقلبك في هذه السياسة وتناسي أهدافنا السامية مما جعلنا موضع مساومة الجميع ولا أظنني في حاجة إلي ان أذكرك ولو علي سبيل الإيجاز بما وصلت اليه أسهم الإخوان من الانحطاط عقب تولي صدقي باش الحكم, بسبب تغلب هذه العناصر النفعية عليك في مهادنته ومسايرته, وما كان من سخط الناس علينا واشتباكنا بعد ذلك مع الوفديين في بورسعيد وغيرها, ثم طلبك إلي بإلحاح أن أسافر إلي الإسكندرية للتفاهم مع الوفديين وذهابك بنفسك مع أحد الإخوان إلي منزل أحد اقطابهم ليلا تعرض عليه التعاون معهم لكف حملاتهم, ثم تغلب العناصر النفعية عليك ثانية لنقض هذا التفاهم وإزكاء نار الفتنة والحرب الأهلية بيننا وبين الوفد إرضاء للحكومة القائمة. محاولة الإنقاذ: وتفاقم الخطب وازدادت الحال سوءا نتيجة لهذا التقلب والتذبذب, فضلا عما حدث من الفتن الداخلية المنوه عنها فتقدمت لك أنا والأخوان الكريمان: الدكتور إبراهيم حسن وحسين بك عبدالرازق, بمذكرة للإنقاذ نرجو فيها تدعيم القيادة بالمخلصين, ووضع سياسة ثابتة للدعوة تحقق أهدافها العليا, وتطهير الصفوف من المفسدين فوعدت بالتنفيذ بعد أن تعود من الحجاز واضطرب الحال في مصر بعد سفرك نتيجة لمشروع: صدقي بيجن المشئوم, مما اضطرني إلي قيادة الحركة الوطنية مع إخواني الأمجاد البواسل وعادت أسهم الإخوان إلي الإرتفاع والتقدير. مساومة واستسلام: وعدت من الحجاز فوجدتني مسجونا وزرتني بالمستشفي وتحدثت إلي أننا علي مفترق الطرق بين الوفد والحكومة وعرضت المقترحات والعروض التي لا محل لذكرها الآن وعرفت موقفي وإصراري علي التمسك بكياننا, وحذرتك بخطابي المحرر في15 ديسمبر1946 م من الإنزلاق في السياسة واغراء أهلها, وأهبت بك أن نظل هكذا أغنياء بأنفسنا أعزاء بإخواننا وهذا سر قوتنا. وشاعت الإشاعات باتصالات بفئة معينة من رجال السياسة ومساومتهم لك علي إخراجي من الدعوة ليصفو لهم الجو, واعترافك إلي بذلك في المستشفي. وفي يوم4 يناير سنة1947 م حين زرتني بمنزلي وطلبت إلي التنحي عن الجريدة وعن وكالة الإخوان وعن نشاطي في الدعوة وقلت بالحرف الواحد إن هذا بناء علي طلب هذه الفئة من رجال السياسة والذين احتفظ بذكر اسمائهم الآن. ولما عاتبتك بشدة علي سماحك لهؤلاء أن يتدخلوا في شئوننا أصررت وقلت إنك توافقهم علي ذلك. سارت الأمور من سييء إلي أسوأ, فكونت اللجنة السياسية المعروفة ووقفت في سبيلك أمنعك من هذا التصرف المشين, ثم إكتشافي عن طريق المصادفة لاتصالاتك ببعض الشخصيات الأجنبية والمصرية وهالني ما حدثني عنه احدهم يوم7 فبراير سنة1947 م...!!! تنفيذ المؤامرة: وبدأت تنفيذ المؤامرة, ففاجأتنا بقرار ايقافي مع زميلي الكريمين( يقصد الدكتور إبراهيم حسن وحسين بك عبد الرازق), وكان كل اتهامك لي امام الهيئة هو وقوفي في سبيلك مما اسميته( تمردا علي القيادة). ووقفت أنا موقفا كريما فلم أشأ أن اكشف الستار عما وراء الكواليس حرصا علي الدعوة وأملا في الإصلاح. وضربت ضربتك الثانية فأخرجتني من الجريدة التي لا يعلم الناس أن سر تدهورها هو سيطرتك عليها وشل نشاطي فيها بعد شهر ونصف الشهر من صدورها كما هو ثابت عندي من الأدلة والمستندات ووقفت أنا ايضا موقفا كريما من ذلك. وبعد ذلك يا أخي أسفرت وكشفت القناع متماديا بالدعوة في الإنزلاق السياسي مع الغفلة التامة عن أهدافنا ومبادئنا مما جعلنا مضغة في الأفواء وجعل الجميع يتحدثون علي أننا صرنا سلعة تباع وتشتري ولا نتقن إلا الدعاية والتهريج وها أنت تضرب ضربتك الأخيرة, تحت ضغط هذه الفئة من رجال السياسة ولو كانت الضربة منك لقبلتها ولكنها بيد عمر لا بيدك!!!! فتبعدني عن الدعوة وأنت أولي بالإبعاد, وتفصل إبنها الأول وأنت أولي بأن تخلع عنك رداءها إن كنت من المنصفين! إعزار..!! بل إنذار: يا أخي: إني أدعوك بدعوة الإسلام واذكرك بما كتبته اليك مرارا وتكرارا إما أن تعود إلي مبادئ هذه الدعوة وتخلع عنك رداء السياسة الحزبية وتجاهد معنا في سبيل المثل العليا التي عاهدنا الله عليها وإما أن تتخلي ليحمل اللواء رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدلوا تبديلا وإلا فإني مضطر لأن اكشف اللثام وأظهر ما خفي واستتر وأحمل مع إخواني الاطهار لواء الدعوة الخفاق, نرفعه ونعزه, ونقاتل دونه حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله وحسبك انت دنيا لك ومن يحوطك من أهلها وإن شعرت أن بيدك سيف المعز وذهبه, فإني معي ربي سيهدين, ومعي بعد ذلك كرام الاخوة المؤمنين الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل أما خطاباك فقد ضربت بهما عرض الحائط, وهما باطلان شكلا وموضوعا, وقد بنيتهما علي اساس هار, والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. أحمد السكري 3 عطفة خيرت