لم تستطع جاذبية الأرض أن تمسك به وهو يطير فرحا.. حين استقبل خطابا يفيد بقبول تعيينه بالمصلحة الحكومية في العاصمة الكبري.. يقرأ الخطاب مرة ثانية وثالثة ورابعة غير مصدق والسعادة لا تفارق وجهه الوظيفة بعد سبوع لابد من بدلة وكرافتة.. ابن عمه عريس جديد.. لم يمض علي زواجه سوي ستة أشهر.. لن يتأخر في إعارته بدلة الفرح.. ليحضر بها اليوم الأول في الوظيفة.. سيعده بالحفاظ عليها.. ولن يسمح لغبار المدينة من الاقتراب منها.. وسيجلس خفيفا كفراشة فوق مقعد القطار.. حتي لايفسد الاحتكاك بخشب المعقد المفرغ.. كواء البدلة.. شعر بثقة تهدم كل عائق.. وتستهين بكل عوامل الاحباط الذي صادفه.. إرتدي البدلة في بروفة تسبق السفر.. مزهوا أمام المرآة.. بيه بحق وحقيقي.. هكذا رددت والدته..يري أن الانسان ليس واحدا.. لكنه ثلاثة.. أنت كما تري نفسك.. وأنت كما تحب أن تكون.. وأنت كما يراك الناس.. سيضطر أن يثني بنطلون البدلة لأن ابن عمه أطول منه قليلا.. استاذنه ووافق لأول مرة ينتشي برائحة الشجر.. ويلمس أجنحة الطيور الملونة.. ويري إنسياب ماء البحيرة في لحن بديع.. الطبيعة تدعوة لمراقصتها.. في هذا الفضاء الشاسع.. يدور معها.. ويغني.. ويسجل هذه اللقطة البديعة والكون كله معه.. يبكي من فرط فرحه وهو يعلم أن هناك آخرين لم تأتيهم فرصته.. يبكون من فرط بؤسهم.. كما أن هناك آخرين.. لايبكون من فرط بؤسهم وفرحهم.. وهؤلاء هم أتعس أنواع البشر علي الاطلاق.. سيأخذ قطار الفجر.. بعد أن أشاروا عليه بتذكرة ذهاب وإياب لرخص ثمنها من جهة.. ومن جهة أخري.. يضمن العودة إذا انفذت نقوده حذروه من ضرورة التبكير في الموعد.. حتي لا تتسبب المواصلات في تعطيله.. و أبصروه بمعوقات السير.. في بطء الاشارات والتوقف أمامها طويلا.. وإغلاق بعض خطوط السير لمرور مواكب الوزراء.. حمد الله.. أن حذاء شقيقه حامد المشتري من سنتين.. لم يبل.. لكنه فقط يحتاج لتلميعة معتبرة.. تعيده كالجديد لايهم أن قدم أخيه أكبر منه نمرتين.. الحذاء واسع بعض الشيء.. سيرتديها حتي لودار بداخلها.. إسترخي في مقعد القطار.. ابتسم للحسناء الثلاثينية التي تجلس أمامه.. لها وجنتان في حمرة الخوخ.. لابد أنها مبهورة أمام أناقته المفرطة.. ورائحة الياسمين الذي رشته والدته فوق بذلته.. إستسلم لنعاس خفيف.. وقد خفق قلبه بايقاع حنين.. حين تراءت في عينيه صورة حبيبته ذو الوجه المنعم بالحياة.. والعينان البنيتان اللتان تفيضان حيوية مثل عيني طائرة غير.. داعب وجهه شعرها المتموج الذي يسافر في كل الاتجاهات.. حلمه أصبح واقعا وهو يتسلم وظيفته الجديدة.. ويتقدم لأسرتها يطلب يدها.. في الحقيقة.. أنهم لا يرحبون به.. وإنما بوظيفته المرموقة والمضمونة.. المهم أن يتزوجها.. من أولي جامعة وهو يحبها.. وهي تبادله الحب.. نصف دسته من الأولاد كثير.. يكفي اثنان فقط ولد وبنت.. أيقظته الثلاثينية.. بعد أن توقف القطار في آخر محطات الوصول.. مازال لدي ثلاثة ساعات علي تسلم الوظيفة.. سيصارع جوعه بساندوتش فول يتناوله في مقهي مع كوب شاي.. في المقهي.. أسلم حذاءه لما سح الأحذية.. بعد أن اطمئن لآخرين أسلموه أحذيتهم.. مازال لديه جنيهان يحتفظ بهما مع تذكرة العودة.. أخفي جوربه المثقوب تحت طاولة المشروبات.. ساعة تبتلع ساعة أخري.. ولم يعد ماسح الأحذية بعد.. سأل عنه صاحب المقهي الذي أكد.. أنه يلمع أحذية الزبائن مجتمعة خارج المقهي.. حين ذهب لاستطلاع الأمر.. أخبروه أن ماسح الأحذية فر هاربا.. من مطاردة شرطة المرافق.. ومعه الأحذية.. محمد محمود غدية المحلة الكبري