هل يكون الحل هو المتوسيكل أو الدراجة؟ سؤال بدأ كوميديا علي سبيل الدعابة, وانتهي الي فتح ملف مزمن ومؤلم اسمه ازدحام الطرقات والمواصلات, وتحول أزمة السير الي مشكلة قومية واجتماعية وإنسانية وصحية ومادية وكنت قبل نحو خمسة أعوام قد أمضيت وقتا طويلا في حساب السنوات التي تروح من عمري وأنا معلقة بين السماء والأرض علي كوبري السادس من أكتوبر في طريقي من والي العمل, مع استبعاد المشاوير التي أقوم بها في ايام العطلات, أو تلك التي تدفعني الي القيام برحلة الذهاب والعودة علي خط مصر الجديدة وسط القاهرة أكثر من مرة في اليوم الواحد, علي أساس أنها مشاوير اختيارية, أو بمعني آخر, أنه يمكن تجنب أو إلغاء بعضها. وقتها اكتشفت أنني قد أهدر نحو ثلاثة أعوام من عمري علي الكوبري انتظارا لانفراجة مرورية لا تأتي, وذلك في حال استمررت في رحلة الإياب والعودة الي سن الستين. ولا أخفيكم سرا, فقد شعرت بأسي شديد أن سنوات عمري تضيع هدرا بهذه الطريقة, وبدأت أنظر الي حياة الكوبري بعين مختلفة. في البداية حاولت أن أنظر لها بعين إيجابية. قلت لنفسي: لعلها هدية أرسلتها لي السماء لأمضي هذا الوقت في عمل مفيد, لاسيما وأنني أعاني دائما وابدا من ضيق ذات الوقت, ومن اضطراري الدائم للركض والهرولة لألحق بهذا الموعد, أو لأعود الي البيت, أو توصيل الأولاد هنا أو هناك. علاقات مرورية وبينما أتصفح الإنترنت, وجدت مقطع فيديو أقل مايمكن أن يوصف به هو أنه عبقري, صوره شاب لصديقه وهو متقمص دور ضابط مرور يشرح للسادة المشاهدين الحالة المرورية, وهي الفقرة التي باتت بالغة الحيوية في الكثير من وسائل الإعلام المسموع والمرئي. وكان من ضمن ما قاله الشاب ان إدارة المرور فكرت في سبل إعادة تأصيل العلاقات الاجتماعية وتقوية أواصر الصلة والقرابة بين المواطنين, وهي العلاقات والأواصر التي أصابها التلف والعطب بسبب إيقاع الحياة السريع, وانشغال الجميع في تفاصيل حياته اليومية التي لم تترك لأحد فرصة هذا التواصل الإنساني الجميل. ومن ثم, فإنه حسب ما قاله الشاب فقد تفتق ذهن إدارة المرور عن افتعال الأزمات المرورية وشلل السير الذي بات سمة من سمات العاصمة, وذلك لتكون الفرصة مواتية للمواطن من دون أن يتفاعل مع بقية المواطنين من حوله والمزنوقين مثله في الشوارع المتخمة. هذا من جهة, أما الجهة الثانية فهي أن هذه الزنقات المرورية تكون فرصة طيبة تتيح لجموع المزنوقين والمزنوقات إجراء مكالمات هاتفية عبر هواتفهم المحمولة للسؤال عن الأهل والأصدقاء ممن تتعذر زيارتهم أو محادثتهم بقية اليوم نظرا لكثرة المشغوليات. وعضد من هذا التفكير الإيجابي في النظر الي الأزمات المرورية باعتبارها تأصيلا وإحياء للعلاقات الإنسانية أن إحدي صديقاتي أخبرتني أنها تستغل مشوارها اليومي من مدينة نصر حيث تسكن الي المهندسين حيث تعمل في إجراء مكالمات هاتفية مع أهلها وأهل زوجها وصديقاتها, وهو ما أعاد حياتها الاجتماعية الي سابق عهدها الذهبي. الذكري الثانية وقد حاولت أن أنتهج هذا النهج, إلا أنني فشلت فيه, نظرا لعدم قدرتي علي التركيز في مضمون المكالمة والقيادة في الوقت نفسه, رغم أن القيادة هنا تعني التحرك لبضعة سنتيمترات كلما تحركت السيارة التي أمامي حتي ألتصق بها إرضاء للسيارة التي في الخلف. ولأنني للأسف أصنف نفسي تحت بند الإنسانة الملتزمة, فقد جاء قانون المرور الجديد الذي نحتفل هذه الأيام بذكراه السنوية الثانية بمثابة طوق نجاة, إذ تأكدت تماما من منطقية النظرية التي تؤكد أنه يستحيل أن يولي الإنسان جل تركيزه لشيئين أو نشاطين في الوقت نفسه, حتي لو كانا ذهنيين. ورغم أنني أكاد أكون المواطن المصري الوحيد الذي يلتزم بحكاية عدم التحدث في الهاتف المحمول أثناء القيادة, إلا أنني لم أندم يوما علي قراري بقطع جميع الاتصالات أثناء القيادة منعا لتشتيت الذهن. الخيار الثقافي لذلك قررت أن أستفيد من الوقت بطريقة أخري, ونظرت حولي الي زملائي وزميلاتي من قادة السيارات, فوجدت أن البعض يملأ وقت فراغه المروري بطريقة ثقافية بحتة, وهي القراءة. فهناك من يقرأ الجرائد, أو الكتب القصصية الصغيرة, أو يراجع أوراق العمل علي اعتبار أن القيادة الهادئة في الأماكن المزدحمة لا تستوجب التركيز التام. وهنا تذكرت المعركة الجدلية التي خضتها في شهر رمضان قبل سنوات مع سائق تاكسي كان مصرا علي قراءة القرآن الكريم من المصحف أثناء القيادة. فقد أسقط في يدي حين رأيت أنه يثبت مصحفا صغيرا علي عجلة القيادة ويقرأ منه أثناء القيادة. وأتذكر يومها كيف أنني انتظرت بعض دقائق ظهور إبراهيم نصر أو ابراهيم يسري أو أي إبراهيم آخر ليسألني إذ كان يمكن أن تذاع هذه الحلقة من الكاميرا الخفية, ولما لم يظهر أحد, واكتشفت أن الموضوع جد مش هزار, طلبت منه أن يختار إما أن يغلق المصحف ويتلو القرآن في وقت آخر, أو أن ينزلني علي جنب. وطبعا نزلت علي جنب بعد اتهامات عدة بأن أمثالي ممن يحاربون الدين هم سبب أزماتنا ومشكلاتنا التي نعيشها. لذلك بدأ الخيار الثقافي خيارا غير مناسب لي, ولا حتي لو كان مصطبغا بصبغة دينية. فأنا كما أسلفت من هواة التركيز, ومن أنصار المثل الشعبي القائل بأن صاحب بالين كداب, وثلاثة منافق. نشاط ترفيهي عدت الي التأمل في نوعية الأنشطة التي تجري من حولي, فوجدت نشاطا ترفيهيا يتلخص في تركيب شاشة تليفزيون أو دي في دي علي التابلوه, وهو ما يتيح للسائق متابعة فيلم عربي أو مسلسل أو أحداث مباراة أثناء القيادة. وبسرعة استبعدت الخيار الترفيهي هو الآخر, فهو يعني حادثة واقعة لا محالة. حل الأزمة وفي لحظة جنون, خطر ببالي حل آخر يبدو في ظاهره مفرطا في المثالية. لماذا لا نحل الأزمة المرورية؟!وتزامن هذا التفكير الجنوني الطائش البعيد كل البعد عن أرض الواقع وخبر صغير قرأته عن فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر والذي اعتبر أن ركوب مدرسي الأزهر للموتوسيكلات والدراجات أمرا غير محمود ويضيع هيبة المدرس. لحظتها تذكرت كيف كان أساتذتي الجامعيون في إحدي أعرق جامعات بريطانيا يأتون الي الجامعة في قلب لندن علي دراجاتهم, وذلك بعد أن يكون كل منهم قد أدخل رجل البنطلون في داخل الشراب حتي لاتعوقه أثناء القيادة. وأعترف أنني تعجبت من المنظر في البداية, إذ يفترض أن يدخل الاستاذ من دول حرم الجامعة في سيارة فارهة مكيفة. وحتي لو لم يكن يمتلك سيارة فارهة ويضطر الي استخدام المواصلات العامة, فيجب عليه أن يترجل منها بعيدا عن الجامعة لأن المواصلات العامة سبة و بعزقة برستيج. ورغم اندهاشي هذا, إلا أنني لا أتذكر أبدا ان أحدهم وقع من نظري أو فقد هيبته أو تبعثرت كرامته بسبب البسكلتة الخاصة به. ثم وجدت بعد ذلك, أن حكاية البسكلتة تلك لاتقتصر علي أساتذة الجامعة فقط, بل تمتد الي الساسة والاطباء والمهندسين من الجنسين. منظومة البسكلتة وقد انفتح هذا الحديث علي مصراعيه مع عدد من الأصدقاء قبل أيام, وانقسمت الآراء وتعددت حول شرعية البسكلتة, وهل هي قلة قيمة, وبعزقة برستيج, أم حل عملي لمشكلة استعصت علي الحل. وكان واضحا وجليا أن مفهومنا للبسكلتة وراكب البسكلتة وثيق الصلة بالجذور الثقافية والعادات الاجتماعية والتقاليد الموروثة. فراكب البسكلتة عادة ما يتم تصنيفه تحت بند الطبقة الكادحة المطحونة اللي مش شيك. وبالتالي, هناك عمليات منظمة مستمرة لا شعورية من قبل الأفراد للتبرؤ من كل مايتعلق بمنظومة البسكلتة. فريق آخر يري أن البسكلتة تحتاج الي إعادة صياغة مجتمعية, وتكاتف من قوي الشعب الحاكمة والمحكومة لرفع الوصمة عن البسكلتة, لاسيما أنها في أوروبا والدول المتقدمة علامة من علامات التحضر وليس العكس, كما أنها لاتعتبر ضمن المؤشرات الدالة علي غني أو فقر صاحبها, وبما أننا نعشق كل ما هو آت من الشمال, فلنلعب علي هذا الوتر الغربي, ونروج للبسكلتة باعتبارها صرعة روشة, لا سيما بين الشباب. 424 آخرون قالوا إنه حتي في حال رواج منظومة البسكلتة, وانتشارها بين علية القوم وأواسطهم, فإن ذلك يعني كارثة محققة. فإذا كنا نتصارع مع بعضنا البعض علي الطرقات وفي الشوارع, ونزنق علي بعض متبعين طريقة4 24, ولا مانع من أن تحاول سيارة نقل بمقطورة أن تكسر علي سيارة ضئيلة حتي تجتازها في استعراض واضح للقوة, حتي وإن كان ذلك يعني الإطاحة بالسيارة وركابها, ولا مانع من أن يخضع سائقو الميكروباص لقانون الغاب, ويؤسسوا لمبدأ البقاء للأقوي والأكثر قلة أدب, والأعمق بلطجة, والأشرس غباوة. فكيف يكون الحال حين ينتقل الصراع ليكون مثلا بين سيارة نقل بمقطورة وبسكلتة؟ وهل ستتمكن البسكلتات من البقاء في الشوارع المصرية ذات الظواهر الجغرافية التي يندر تكرارها في أي مكان في العالم, ربما باستثناء الأماكن التي ضربتها زلازل عاتية, أو انفجرت فيها براكين مدمرة, أو ابتليت بسيول فتاكة. فالمطبات والحفر وآثار الرصف ال كل شين كان, بالإضافة الي الرفض التام للاعتراف بمسألة الخطوط البيضاء التي تحدد الطريق في حارات, وغيرها ستؤدي حتما الي كوارث متصلة علي الطرق, تفوق في ضراوتها ما نشهده يوميا من ظاهرة إسمها نزيف الأسفلت. وعادت دفة الحديث مجددا الي مدرسي الأزهر وموتوسيكلاتهم ودراجاتهم, وتساءل بعض الحاضرين عن البدائل المطروحة لأولئك المدرسين. فأكيد أن الغالبية العظمي منهم لاتمتلك سيارات خاصة تحفظ لهم هيبتهم أمام التلاميذ. وأكيد أيضا أن رواتبهم لن تتيح لهم رفاهية الاعتماد علي سيارات الأجرة. أما المواصلات العامة, فجميعنا يعلم وضعها الذي يصل أحيانا الي درجة انتقاص الآدمية, وهو مايعني أن لجوء المدرس الأزهري أو غير الأزهري الي الموتوسيكل أو البسكلتة هو بالتأكيد أحد أفضل البدائل المطروحة. البديل الآخر هو أن توفر له الجهة المتضررة من ركوبه المتوسيكل أو البسكلتة وسيلة انتقال آدمية وتحفظ له مكانته وهيبته. أما البديل الثالث والأخير فهو أن يتم حل الأزمة المرورية التي تعيشها مصر منذ سنوات دون أية علامات لحدوث انفراجة. وانفض المجلس كغيره من المجالس, فلا الموتوسيكل والدراجة هما الحل, ولا المدرس وجد بديلا للانتقال الي المدرسة, ولا أزمة المرور تم حلها. ولكن حتي نتمسك بروح التفاؤل, لاسيما ونحن مقبلون علي أيام مفترجة, نقول, طيب ماذا سيكون حالنا لو تم حل أزمة المرور؟ أكيد سنفقد موضوعا ثريا للحديث والنقاش, وبالتالي ستكون حياتنا أكثر مللا, وستتضخم مشكلاتنا بقدر أكبر, وسنبحث عن ملف آخر نتناقش حوله, ونجادل في شأنه. كل عام وأنتم بخير.