حديث الكبار للصغار عن ضرورة الترشيد حديث خطير ويؤدي حتما الي مزيد من الكبت والاحتقان والتباعد بين الحكومة والمحكومين. يستفزني جدا الحديث عن ترشيد الاستهلاك في مصر لماذا يستفزني؟ لأنه حديث في الهواء. فعادة يطالب الوزراء وكبار المسئولين البسطاء من الناس بترشيد استهلاكهم من اللحوم والدجاج, وعدم الإسراف في تناول الزبدة البلدي والسمن الطبيعي, وضرورة التحكم في عدد ارغفة الخبز التي يتناولونها. لكن السؤال هو هل يطبق المطالبون بالترشيد هذا المبدأ الراقي؟ لا اظن! فلنتخيل مثلا المسئول الكبير في بيته علي مائدة رمضانية وقد دعا اهله واهل زوجته, هل سيتبع مبادئ الترشيد التي يطالب بها؟ كم صنفا سيتم تجهيزه للاهل والاقارب؟ وكم نوع بروتين ستحفل بها المائدة؟ وما تكلفة هذه الوليمة التي بالتأكيد لن تكون واحدة او اثنتين او حتي ثلاث, بل هذه هي سمة رمضان في بيوت الكبار وليس الصغار.. هل كبار المسئولين يظنون ان الناس الغلابة الذين تشير بعض التقارير إلي ان نسبتهم تفوق ال44% اي نحو نصف المصريين يعزمون أهاليهم واصدقاءهم علي ولائم ومآدب في رمضان او غير رمضان, رغم انهم مش لاقيين ياكلوا؟ لماذا يحدثوننا عن الترشيد رغم أنه رفاهية لا تملكها سوي الاقلية؟ نعم, الترشيد في هذه الحالة رفاهية, لأنه غير متاح الا لمن يملك رفاهية الاختيار. وبمعني آخر, فحتي اتخذ قرار الترشيد, فهذا يعني انني قادرة علي الترشيد او الاسراف او الوسطية, ولكنني اخترت بكامل إرادتي ان ارشد, لاسباب تتعلق بطريقة تفكير, او ثقافة, او رغبة مني في مشاركة الآخرين ممن لا يملكون في حياتهم, او علي سبيل التضامن مع اخرين لمعاقبة التجار علي جشعهم وهذا يعني ايضا ان الفقراء وغير القادرين لا يملكون هذا الخيار, فلماذا يوجع المسئولون قلوبهم ويهدرون وقتهم ووقتنا ويستفزوننا ويهملون بقية اعمالهم ويحدثوننا عن الترشيد ويحفزوننا عليه رغم ان اغلبنا لن يرشد لانه اصلا مرشد من غير مجهود.. صحيح ان تجهيز الاكل, حتي لو كان فولا مدمسا وبصلا اخضر, بكميات كبيرة تفوق احتياج الاسرة امر غير مرفوض, لكن عدد الاسر التي مازالت لديها القدرة علي مثل تلك التصرفات اخذ في التقلص, ليس لوعي منهم بان الاسراف مكروه, او لإيمانهم بان اللي معاه قرش محيره, لا يطيره بهذه الطريقة بالضرورة, ولكن لان القدرة المادية علي مثل هذا الاسراف آخذة في النقصان. كلنا يعرف ان احدي المتع القليلة التي مازال المصريون قادرين علي التمتع بها دون ان يتعرضوا للضرب او الاهانة او الذل هي الاكل. صحيح انهم قد يتعرضون للضرب في طابور لحمة الجمعية, او قد يفقدون احد الاحبة في طابور العيش, لكنهم في النهاية يحظون بمتعة الاكل اما ما عدا ذلك من طموح في عمل, او تحقيق لحلم بعيد المنال,او حتي تعليم وتربية علي مستوي جيد للاولاد فيظل حبيسا لمنطقة الاحلام بعيدة المنال عصية علي التحقيق. وهذا يعني مزيدا من التركيز علي ما تبقي من متع او اماني قابلة للتنفيذ, ومنها الاكل. اعتقد انني لو كنت من الحكومة لابتعدت قدر الامكان عن الحديث عن ترشيد الاستهلاك في الاكل, واذا وجدت نفسي مصممة علي مثل هذا الحديث, فلتكن مقتصرة علي اماكن بعييها لا تستقبل سوي نوعية او فئة معينة من المصريين, مثل مارينا مثلا او النوادي الخاصة, او تجمعات النسوة للاعمال الخيرية, لان هذه هي الفئة التي يمكن ان ترشد استهلاكها ان ارادت. [email protected]