خلال ندوة كبري عقدت في فرنسا تمت إعادة تقييم المخرج الروسي الشهير سيرجي إيزنشتين الذي يعد من أهم من ساهموا في جعل السينما فنا مع حقيقية مع أبداعاته وإضافاته لفن المونتاج مع الأمريكي الشهير ديفيد وورك جريفث مخرج فيلم تعصب. هذا الفنان العظيم قد عاني من اضطهاد السياسية للفن وكان ذلك في ظل المجتمع الأمريكي وكذلك تحت حكم ستالين في الاتحاد السوفيتي السابق وكأن حياته دليل علي أن السياسة والفن من النادر أن يتفقا مهما كانت طبيعة النظام الذي يعمل الفن تحت رايته. انه عبقري السينما سيرجي أيزنشتين المولود في ليتوانيا منذ أكثر من مائة عام في23 يناير1898 لأب مهندس من البرجوازية العليا تطوع عام1918 في الجيش الأحمر ليحارب في صفوف البلاشفة من أجل الدفاع عن الثورة الشيوعية.. فيما كان والده يحارب في الجيش الأبيض ضمن قوات المناشفة المعادية لثورة أكتوبر الاشتراكية واستيلاء الشيوعيين علي السلطة. كان أيزنشتين منذ شبابه شخصا غير عادي, مفعما بالثورة والرغبة في التغيير, وظلت هذه الروح المحرك الأساسي لحياته عند تحوله للفن الذي بدأ طريقه فيه بتصميم الديكور والإخراج للمسرح.. وضحت هذه الروح الثورية في أفلامه الأولي( الإضراب 1924 والمدرعة بوتميكن1925 وأكتوبر 1926 وهي الأفلام التي تناولت كفاح الثوريين في روسيا القيصرية في الفترة من1905 حتي1917, العام الذي استولت الحكومة البرجوازية بقيادة كرنيسكي علي السلطة لمدة ستة أشهر قبل الثورة البلشفية. ولم تبرز تلك الأفلام ثورية أيزنشتين وتشيعه من الفكر الاشتراكي فحسب, بل أظهرت نبوغه وعبقريته في استخدام السينما كأداة للحشد الجماهيري والتأثير في الجموع.. وكانت أداة التأثير الرئيسية لديه فن المونتاج السينمائي, هذا التكنيك الذي ظهرت قيمته الفنية في التخاطب والتأثير مع أفلام المخرج الأمريكي الشهير ديفيد وارك جريفيت, صاحب فيلمي( مولد امة وتعصب). وكتب أيزنشتين مقالا شهيرا تحت عنوان( نحن جريفيت وديكنز) أوضح فيه أن المونتاج كمفهوم بدأ مع الأدب, وتحديدا مع أعمال الكاتب الانجليزي الشهير تشارلز ديكنز, الذي كان يكتب احداثا تدور في عدة أماكن في نفس الوقت, بالإضافة الي تقطيعه الحدث الدائر في مكان واحد الي عدة مواقف وهو ما يقابل في السينما تقطيع المشهد الي لقطات.وأثني أيزنشتين في نفس المقال علي بدايات المونتاج في السينما الأمريكية مع أفلام المخرج الآن بورتر, وتحديدا( سرقة القطار الكبري) لكن المونتاج لم يتطور ولم يحصل علي وظيفية الدرامية ألا مع أفلام جريفيت, الذي جعل السينما الصامتة تمتلك لغة بصرية تكاد تنطق وتخاطب الجمهور. ووجد المونتاج قوته في السينما الروسية, عبر تجربة ليف كوليشوف الشهير مع الممثل( موسيجو كين), كما برز أسلوب المونتاج الرمزي لدي المخرج بودوفكين في فيلم( الأم) الذي استخدم فيه أسلوب المزج ليوحي بمشاعر البهجة والفرح في نهاية الفيلم, ورغم أن هذه النهاية كانت موت الأم, الي أنها ماتت دفاعا عن ابنها وعن مبادئها. وتميز المونتاج عند بودوفكين أيضا بتصاعد المسار الدرامي, حيث تكون اللقطة الجديدة إضافة علي اللقطة السابقة, ويكون مجموع اللقطات تصاعدا للحدث داخل محوري الزمان والمكان. ولكن مع أيزنشتين, اخذ المونتاج منحي أخر أكثر تطورا, حيث كانت اللقطة في حد ذاتها لا معني لها, وإنما تكتسب معناها من( اصطدامها) باللقطة التالية لها وهو ما عرف بالمونتاج( الصدامي) أو( المونتاج الديالكتيكي) حيث يري أيزنشتين إن اللقطات ليست تتابعا خطيا لمسار درامي, انما تدخل كل لقطة في علاقة جدلية( ديالكتيكية) مع اللقطة التالية. وهذه العلاقة تكون معني جديدا لدي المشاهد لا يمكن استخلاصه من كل لقطة علي حدا. وجاء هذا التصور النظري ل( أيزنشتين) من تعلقه بالمسارح اليابانية, بالإضافة الي اهتمامه بالفن المصري القديم واللغة الهيروغيليفية. فلكل حرف في اللغة اليابانية معني مستقبل وكأنه كلمة, وعند جمع أكثر من حرف( كلمة) تعطي الجملة معني آخر.. ومثلا كلمة( حمامة) عندما تجمع مع( سكين) يكون المعني الحزن. وأبرز مثال علي هذا الأسلوب المشهد الأخير في فيلم( المدرعة بوتمكين) الذي يعرف باسم( سلالم الادويسا) وفيه يصور هجوم الجنود علي المتظاهرين في المدينة( أوديسا) الروسية, حيث صور أيزنشتين لقطات لأقدام الجنود ووجوه المتظاهرين ثم مزجها معا في المونتاج معطيا أحساسا بالقمع والقهر. وفي عام1930 دعي أيزنشتين الي باريس ليعرض فيلمه في جامعة( السوربون) علي أن تعقب العرض محاضرة يلقيها.. ولكن السلطات الفرنسية منعت عرض الفيلم, ولم يلق أيزنشتين المحاضرة, بل ترك فرنسا علي عجل مع مساعده جريجوري السكندروف قبل أن تطردهم السلطات( لم يعرض الفيلم في باريس الا عام1973 ثم لبي أيزنشتين ومساعده ومدير التصوير الشهير ادوارد تيسيه, الذي صور كل أفلامه دعوة أخري للعمل في هوليوود.. الا أنه اختلف مع مسئول شركة( بارامونت) بعد التعديلات التي أجراها علي سيناريو فيلم( تراجيديا أمريكية) الذي كان من المفترض أن يخرجه.. فقد اعتبرت( بارامونت) أن هذه التعديلات( يسارية متطرفة تتنافي مع الروح الأمريكية).