الذهاب إلي السجن أفضل من مخالفة تعاليم الحاخامات' هذه الجملة كانت من بين الهتافات التي استخدمتها أسر' يهودية متدينة' من' الحريديم' احتجاجا علي حكم محكمة' العدل العليا' في إسرائيل التي قضت بسجن كل من يتمسك بالفصل بين طالبات المدارس الدينية الحريدية من الأصول الغربية ومن ذوات الأصول الشرقية, فالسجن هنا ثمن مقبول للتمسك بالفصل بين الفتيات الغربيات والشرقيات من طالبات المدراس الدينية. والقضية باختصار هي أن مدرسة دينية في' عمانويل' تفصل بين الطالبات الغربيات والشرقيات, وتري أسر الفتيات الغربيات أنه لا يمكن أن يجري الاختلاط بين بناتهن وبين الشرقيات في الدراسة الدينية, وعندما تم اللجوء إلي محكمة العدل العليا, أصدرت حكمها بإلغاء الفصل بين الطالبات علي أسس عرقية أو أصل بلد الهجرة, علي وقع الانقسام التاريخي بين اليهود الغربيين( الأشكيناز) واليهود الشرقيين( السفارديم) بادرت أسر الفتيات الغربيات وعددها(43 أسرة) برفض الامتثال لحكم محكمة العدل العليا, وسيروا مسيرات ومظاهرات ساندهم فيها آلاف الأصوليين اليهود, ترفض الالتزام بالحكم, وتعلن الاستعداد لدخول السجن لقاء الدفاع عما يرونه إيمانا أو تعاليم الحاخامات( الأسياد), وحتي يكتمل المشهد, بادر الحاخام عوفاديا يوسف, الأب الروحي لحزب شاس, وهو حزب يعبر عن يهود الشرق( السفارديم) المميز ضدهم في هذه القضية, إلي التأكيد علي عدم أحقية محكمة العدل العليا في إصدار حكم في قضية تخص الحريديم, قائلا' ما كان ينبغي التوجه إلي الهيئات القضائية للدولة, فالاحتكام هنا يكون فقط للمحاكم الحاخامية'. قد يشعر المرء بالدهشة من وجود بشر في القرن الحادي والعشرين يؤمنون بالفصل بين الفتيات علي أسس عرقية, وتزداد الدهشة عندما نعرف أن الفتيات موضع القضية هن طالبات مدارس دينية, تصر الأسر الغربية علي عدم جلوس بناتهن إلي جوار متدينات شرقيات, لكن المتابع لهذا الشأن لا تأخذه الدهشة, ومن قرأ كتاب' الأصولية اليهودية' للبروفيسور إسرائيل شاحاك يكون محصنا ضد الدهشة, فالرجل ساق في كتابه عشرات الأمثلة والوقائع التي تنتمي للعصور القديمة, الوسطي وما قبلها, والتي تحدث كل يوم بين المتدينين من أصول شرقية وغربية في إسرائيل. فاليهودي الغربي يعتبر نفسه' أطهر' من الشرقي, ووفق تعاليم الحاخامات لا يجوز نقل دم اليهودي الغربي إلي الشرقي علي الإطلاق, فدماء اليهودي الغربي طاهرة عكس الحال لدي الشرقي, بينما يمكن نقل دم الشرقي إلي الغربي من أجل إنقاذ حياة الأخير, واليهودي الغربي يري نفسه إنسانا متحضرا, بينما يري الشرقي كتلة من' الغباء' والهمجية, وهناك من وصف اليهودي الشرقي بأنه' نزل للتو من علي الشجرة'. عموما هذه النظرة العنصرية الاستعلائية من جانب يهود الغرب تجاه يهود الشرق ليست بجديدة, كما أن استعداد الأسر الحريدية الغربية للذهاب إلي السجن دفاعا عن الفصل بين فتياتهن من طالبات المدراس الدينية وبين نظيراتهن من الشرقيات, يغدو أمرا منطقيا في ظل حالة الهوس الديني التي تجتاح التيارات الأصولية في إسرائيل. ويبدو مهما للغاية فهم العقلية الأصولية, فهذه العقلية تتسم بداية بالانغلاق الشديد, وتري العالم بعيون نصية جامدة, كما أنه عقلية عنصرية استعلائية, تجاه المغاير الديني أولا, فتري الآخر الديني في مرتبة أدني, وهناك من يراه أقل إنسانية, ووجوده إنما من أجل خدمة' المختارين' الذين فضلهم الله علي ما عداهم من بشر لمجرد أنهم ولدوا من ذات الدين أو حملوا هوية دينية مسجلة في الأوراق الرسمية. وعنصرية الأصوليين هنا تطول كافة' الأغيار' أي المغايرين في الدين, ومصطلح الأغيار لدي الأصولية اليهودية يعني كل من هو غير يهودي, وبالتالي فهو أقل مرتبة من اليهودي الذي اختاره الله واصطفاه دون غيره من البشر, القصة هنا لا علاقة لها بما يحمل الإنسان من قيم ومبادئ, ولا ما يتسم به من صلاح أخلاقي وتحضر, بل لها علاقة بصلة دم أو هوية مسجلة علي الورق, فلأنه ينتمي إلي' اليهودية' فهو أفضل بصرف النظر عن سلوكه وقيمه وأخلاقه. ولا تتوقف العقلية الأصولية عند هذا الحد, بل إنها تمارس عنصريتها داخل نفس الدين الذي تحمله, فتبحث عن التميز والسمو والعلو علي أرضية طائفية/ عرقية, ففي إسرائيل يوجد علي القمة اليهود الغربيون, وعلي مسافة بعيدة منهم وإلي أسفل يوجد يهود الشرق, ومن بعدهم يأتي اليهود السود( الفلاشا من الحبشة, والزنوج من الولاياتالمتحدة وبعض الدول الإفريقية), ولأن اليهود الغربيين هم من أقاموا الدولة وكانت من بينهم القيادات التي أنشأتها, فقد خصوا أنفسهم بكل ما هو مميز, وزجوا بيهود الشرق إلي أتون المعارك مع العرب, وزعوهم علي مدن التطوير وعلي المناطق الحدودية. أما اليهود السود أو الفلاشا, فقد كانوا مادة دائمة للسخرية والعزل, فهم في أدني مراتب السلم' اليهودي' غير مقبول الاختلاط بهم أو العيش معهم. الأصولية تري الذات والآخر من وجه واحد فقط, كعين الطائر, تري الخير كل الخير في الذات, وبشكل مطلق, والشر كل الشر في الآخر وبشكل مطلق أيضا, تعيش أسيرة النصوص, ترفض التجديد والاجتهاد, تقدس الموروث وتتعلق بما قال' السلف أو الأسياد' ترسم صورة مبسطة للعالم, ترفض العالم المتغير والمتجدد, تبحث عن الخوارق باستمرار وتنتظر المعجزات, واحيانا تستعجلها فتركبها قسرا علي ظواهر كطبيعية أو تقدم تفسيرها الخاص لهذه الظواهر..إنها الأصولية... الرجل ساق في كتابه عشرات الأمثلة والوقائع التي تنتمي للعصور القديمة, الوسطي وما قبلها, والتي تحدث كل يوم بين المتدينين من أصول شرقية وغربية في إسرائيل. غير مقبول الاختلاط بهم أو العيش معهم. الأصولية تري الذات والآخر من وجه واحد فقط, كعين الطائر, تري الخير كل الخير في الذات