بقراءة تحليلية لسلوك الحكومات المصرية عبر الستين عاما الماضية, فيما يخص مصالح الناس ومعايشهم, يتأكد لنا أن إذلال المواطن ودورانه في حلقات مفرغة, كان غاية في حد ذاته ولم يكن شيئا عفويا نتيجة قصور الإمكانيات, أو غياب النظم الإدارية الإبداعية. ومؤكد أن الأسباب السياسية ورغبة الحكام في إلهاء المواطنين عن الشأن العام, كانت وراء ابتكار وسائل متخلفة جدا في إدارة وتصميم مؤسسات الخدمات والحكم المحلي ليس لها مثيل في العالم كله, لتعقيد الأمور في وجه من يسعي إلي قضاء مصلحة أو استخراج ورقة رسمية في أي مجال, حتي يضيع الوقت ويستنزف المال, وتهان الكرامة إلي الحد الذي يجعل المصري مستعد لقبول أي تنازلات أو سلوك طرق ملتوية تنتهي بتشوهات نفسية وأمراض اجتماعية نشاهدها حية الآن في غياب القيم وعشوائية السلوك في كل موطئ قدم من أرض مصر. تذهب إلي أي جهة حكومية لإنجاز وثيقة تخصك فتفاجأ بالآتي: - المباني ضيقة كالحة, شكلها لايسر الناظرين داخليا وخارجيا, غير مصممة أساسا لأداء الوظيفة التي خصصت لها, والموظفون يجلسون إلي مكاتب وطاولات بالية تنتمي للقرون الماضية, وأمامهم وحولهم أكداس من الدفاتر والأضابير والملفات المتسخة والمهترئة من كثرة التداول. - الموظف لاينتبه إلي وجودك أصلا, وإذا أشعرته بأنك موجود بإلقاء السلام أو التحية لايرد غالبا, وإذا رد يعود إلي الانكفاء علي دفاتره ولايعيرك اهتماما, وإذا ألححت في الطلب رد بنبرة متحدية وعين مزدرية:نعم, تبدأ في شرح ماتريد, يقطع عليك الطريق بخطف الأوراق التي في يدك إن وجدت, وتبدأ دائرة التعقيدات. - شراء نموذج أو طابع أو دفع أي رسوم يحتاج إلي أن تذهب إلي الخزينة التي توضع في مكان ضيق أشبه بالزنازين, وموظف واحد بشباك حديدي يصعب تمرير أي أوراق من خلاله, وطابور طويل من المواطنين وقوفا في ضجر وقرف وتململ من طول انتظار الدور الذي قد يأتي بعد ساعة أو أكثر, وقد تحدث المفاجأة الخانقة عندما يخبرك الموظف أن الساعة12 ظهرا وأنه لابد من إغلاق الخزينة للحاق بالبنك, وبهذا يضيع يومك دون أن تنجز. - لا أماكن لانتظار المواطنين ولا استخدام لنظم تقنية حديثة في ترتيب أدوار طالبي الخدمة والنداء عليهم آليا كما يحدث في كل دول العالم المحترمة, ولا نظم معلومات تتيح تطبيق نظام الشباك الواحد, بحيث يتوفر لدي موظف الشباك كل مايلزم لأداء الخدمة من أوراق وطوابع, ونماذج تحصيل تغنيك عن التحرك في أكثر من مكان والدوران علي أكثر من موظف لإنجاز وثيقة واحدة. - يضيع وقت مضاعف قد يمتد ليومين أو ثلاثة لإنجاز مصلحة قد لاتحتاج لأكثر من خمس دقائق في حالة ما إذا طبقت النظم والإدارة الحديثة في كافة دوائر الحكم, وبالطبع كل مايضيع من أوقات يمثل كلفة اقتصادية وبدنية ونفسية عالية تطول أماكن وأعمال كثيرة, نظرا لأن المواطن الذي تعرض للتعطيل قد يكون موظفا أو عاملا يتضرر بسبب غيابه آخرون, كما أنه لكثرة مايقضي من مشاوير تتضاعف كلفة مصلحته, وهكذا ندور في حلقات مفرغة. - تشعر أن الموظف من كثرة الضغط العصبي والنفسي عليه وجلوسه في مكان غير لائق, وعدم وجود أدوات تساعده علي الإنجاز, يتحول إلي مايشبه الآلة الصماء ويفقد جزءا كبيرا من مشاعره الانسانية فلا يحترم من أمامه, وهو معذور في ذلك لأنه مطحون, لايجد مايسد رمقه ولا من يحترم مشاعره في وظيفة كان يتطلع إليها يوما ما علي أنها حلم كبير. هذا جزء من الصورة الكلية في أي مصلحة, تتخفي وراءه تجاوزات رهيبة تبدأ بالرشوة وتنتهي بتغييب القانون وتجاوزه تماما. دوائر الإذلال واسعة فضفاضة تطول الكل, وبها تفاصيل أكثر من أن تحصي, ويراد لها أن تبقي مستمرة وتتعمق أكثر مع سبق الإصرار والترصد, في ظل نظام يريد أن يعيدنا إلي الوراء سنوات وسنوات.