أرادت أمه أن ترسله إلى الدير ليصبح كاهنا، لكنه أصبح روائيًا. كتب وصيته وطلب ألا يُذاع خبر وفاته في أية وسيلة إعلامية، وألا يُقام له أي عزاء. يرونه نجيب محفوظ سوريا، ويرى أن الكتابة ليست سواراً من ذهب، بل هي أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة. إنه الروائي السوري حنا مينه الذي نحتفى اليوم بميلاده ال91. وُلد في أسرة فقيرة لأب أمي ووالدة كانت أيضاً لا تعرف القراءة ولا الكتابة، إنما حصيلة معارفها ما انتقل إليها في التوارث من معلومات دينية تركت في تكوينها آثاراً واضحة فهي أشبه ما تكون لقديسة مخلصة وفية مسيحية مستسلمة، لذلك كانت ترغب، في إرسال وحيدها "حنا" إلى دير ليصبح كاهناً ولكنه أصبح روائياً، وقدم للقارئ أعمالاً حفرت اسمها في تاريخ الرواية العربية "كالشراع والعاصفة، والشمس في يوم غائم، والياطر، وناظم حكمت" وغيرها من الأعمال التي تجاوزت طبعات بعضها عشر طبعات، وهذا يعني الإقبال المتزايد على قراءة هذا الروائي الكبير حسبما يؤكد الناقد الأدبي الدكتور عاطف عطا الله البطرس. يقول الأديب الكبير "حنا مينه": "منذ كنت ابن ثلاث سنوات، وتلك الدار القديمة في مدينة اللاذقية والتي هدمت فيما بعد تتراءى لي كبقايا حلم لأنني ولدت وحبوت ودرجت فيها. كانت بدء وعيي بالوجود وظلت رؤاها فرقاً تتجمع وتتفرق تظهر وتغيب ينقطع تسلسلها ينقلب تتجلى تمحى بفعل الزمن أو يمحى بعضها، إلى أن قضت على ما تبقى منها، وأعدت الترميم والتوليف وسد الفجوات حتى تكاملت بقاياها واستقامت صوراً صالحة لمتابعة سياق حياة عائلة". وعالم حنا مينا الروائي هو عالم الإنسان في صراعه مع الطبيعة، والإنسان في صراعه مع المجتمع، وفي صراعه مع التاريخ، كما أنه عُرف بأديب البحر لدرجة أنه يصف نفسه بصفات البحر قائلًا: " هو أنا في سكينته وفي عصفه، وهو أنا في وداعته وشراسته، وكذلك في كرمه الذي يأبى المقابل، وفي عطائه الذي لا ينتظر الشكر من أحد، فالذي يعطي ويرجو شيئاً مقابل عطائه نذل، والذي من شيمه الكرم، ويتوقع جزاء من وراء هذه الشيمة فاسد". ويتساءل "تريدون معرفة البحر؟ ابحثوا عنها في رواياتي، لا في الأدب العربي القديم أو في الأدب العربي الحديث، فهما، قديماً وحديثاً، ليس فيهما ما يسمى "أدب بحر". معي وحدي كان البحر بحراً، في ثماني روايات عن هذا الأزرق الواسع، لذلك سموني "أديب البحر" وأنا كذلك، شاء الحساد أو كرهوا!. اشتغل مينه في مهن كثيرة، من أجير مصلّح دراجات، إلى مربّي أطفال في بيت سيد غني، إلى عامل في صيدلية، إلى حلاّق، إلى صحفي، إلى كاتب مسلسلات إذاعية باللغة العامية، إلى موظف في الحكومة، إلى روائي، وهنا المحطة قبل الأخيرة. ساهم مع لفيف من الكتاب اليساريين في سورية عام (1951) بتأسيس رابطة الكتاب السوريين، والتي كان من أعضائها: سعد حورانية فاتح المدرس شوقي بغدادي صلاح دهني مواهب كيالي حسيب كيالي مصطفي الحلاج وغيرهم، وقد نظمت الرابطة عام (1954) المؤتمر الأول للكتاب العرب بمشاركة عدد من الكتاب الوطنين والديمقراطيين في سوريا والبلاد العربية، كما ساهم في تأسيس اتحاد الكتاب العرب. وكان يرى أن مهنة الكاتب ليست سواراً من ذهب، بل هي أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة" لا تفهموني خطأ، الحياة أعطتني، وبسخاء، يقال إنني أوسع الكتّاب العرب انتشاراً، مع نجيب محفوظ بعد نوبل، ومع نزار قبّاني وغزلياته التي أعطته أن يكون عمر بن أبي ربيعة القرن العشرين. من أشهر رواياته "المصابيح الزرق" وهي روايته الأولى التي كتبها سنة 1954 واستغرق في تاّليفها ثلاث سنوات "و"الشراع والعاصفة" و"الياطر" و"الأبنوسة البيضاء" و"حكاية بحار" و"نهاية رجل شجاع"، التي تحول العديد منها إلى أفلام ومسلسلات سوريا. حتى السطر الأخير في حياته لم ينس أن يسجله في وصيته وهو على قيد الحياة: "أنا حنا بن سليم حنا مينه، والدتي مريانا ميخائيل زكور، من مواليد اللاذقية العام 1924، أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية، وقد عمّرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه "لكل أجل كتاب". "لقد كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذور للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء، وإني لمن الشاكرين. عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يذاع خبر موتي في أية وسيلة إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي، وليس لي أهل، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا علي عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية. كل ما فعلته في حياتي معروف، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرست كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولما أزل. لا عتب ولا عتاب، ولست ذاكرهما، هنا، إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمري كله، لا على الحظ، بل على الساعد، فيدي وحدها، وبمفردها، صفقت، وإني لأشكر هذه اليد، ففي الشكر تدوم النعم. أعتذر للجميع، أقرباء، أصدقاء، رفاق، قراء، إذا طلبت منهم أن يدعوا نعشي، محمولاً من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاص مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب علي، في أي قبر متاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة. لا حزن، لا بكاء، لا لباس أسود، لا للتعزيات، بأي شكل، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثم، وهذا هو الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التآبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، استغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها. كل ما أملك، في دمشق واللاذقية، يتصرف به من يدّعون أنهم أهلي، ولهم الحرية في توزيع بعضه، على الفقراء، الأحباء الذين كنت منهم، وكانوا مني، وكنا على نسب هو الأغلى، الأثمن، الأكرم عندي. زوجتي العزيزة مريم دميان سمعان، وصيتي عند من يصلّون لراحة نفسي، لها الحق، لو كانت لديها إمكانية دعي هذا الحق، أن تتصرف بكل إرثي، أما بيتي في اللاذقية، وكل ما فيه، فهو لها ومطوّب باسمها، فلا يباع إلا بعد عودتها إلى العدم الذي خرجت هي، وخرجت أنا، منه، ثم عدنا إليه". لمزيد من التفاصيل إقرأ أيضًا :