نعم، لطالما كانت "الحياة" هي اللغز الأكبر الذي حير عقول المفكرين منذ الأزل. لقد نظروا إليها من زوايا متعددة: منهم من رآها معركة، ومنهم من رآها مسرحية، ومنهم من رآها رحلة عبثية. لنبدأ من تساؤلات ورؤية أنيس منصور: "هناك لحظات قليلة جداً من الحياة يسأل الإنسان نفسه: صحيح.. ما معنى هذه الحياة؟.. ما معنى ما حدث لنا.. أن نولد ونتعذب ونموت.. لم نفهم شيئًا.. لا عرفنا لماذا جئنا ولا عرفنا لماذا ذهبنا.. ولن نعرف ذلك.. إذن ما معنى أن نحشر أنفسنا في قطار ليست له محطات.. في لحظات قليلة يحس الإنسان بعمق وهدوء.. أن هذه الحياة أصبحت لا تساوي.. أو هي بالفعل لا تساوي.. ولكننا ننسى أنها سوف تساوي شيئًا لا نعرفه الآن!" ثم هل الحياة فعلاً تعني التوافق مع السلبيات؟! كتب الفيلسوف ألفريد وايتهيد: "إن مفهوم الحياة يعني شيئًا من القدرة المطلقة على الاستمتاع الذاتي". وأظن أن "الحياة" ضحكت كثيرًا بعد هذه الجملة. فالحياة، هذا اللغز، لا تستمتع بنا بقدر ما تستمتع بتغيير مزاجنا كل خمس دقائق! ننظر إليها فنراها معركة، مسرحية، بصلة.. نعم بصلة! تقشّرها طبقة بعد طبقة، فإذا وصلت إلى القلب، وجدت دموعك وحدها تنتظرك. ولطالما سألت نفسي: هل المطلوب منا أن نتفاهم مع السلبيات؟ أن نفتح الباب للمصائب كما يفتح المتقاعد نافذة الصباح؛ ليتنفس هواءً جديداً. ثم في لحظة صفاء نادرة -لحظة تختفي فيها قرعات الأصدقاء على الأبواب وأسئلة الأبناء- نكتشف أن الحياة لا تساوي شيئًا.. أو لعلنا لا نساوي فيها شيئًا.. ومع ذلك، نواصل الركض؛ لأن الحياة تُطلق من حين إلى آخر إشاعة لطيفة: أن كل هذا سيؤدي إلى معنى ما، في وقت ما، لا نعرفه! يقول طه حسين: "إن الحياة لا تقف لأحد، فمن أراد اللحاق فليسرع". إن طه حسين يخبرنا أن الحياة ليست مجرد واقع نعيشه، بل هي تجربة استثنائية لمن يرفض الاستسلام لظروفه. لقد حوّل محنته الشخصية (فقدان بصره في سن مبكرة) إلى وقود لبناء فلسفة مفادها أن البصيرة تتفوق على البصر، وانتصر في النهاية، فظل اسمه خالدًا. وبصفة عامة، الفيلسوف هو ذلك الذي يرى الحياة من فتحة إبرة.. ولكن بشكلها العام والواسع. سقراط يقول: "الحياة التي لا تُختبر، لا تستحق أن تُعاش". يا سلام! ومن قال إن الحياة استشارتنا أصلاً؟ نحن الذين هبطنا فيها بلا مقدمات، ثم مطلوب منا أن نختبرها، وكأنها معمل كيمياء لا يقبل الخطأ. نيتشه يضيف عبئًا آخر على كاهلنا: "أن تعيش يعني أن تتألم، وأن تبقى على قيد الحياة يعني أن تجد معنى للألم". تمام! نتألم، ثم نبحث عن مبرر شيك لهذا الألم. واجب منزلي طويل لا ينتهي. أما كامو فيتمرد.. يقول إن "الحياة لا تُعاش إلا بالتمرد". لكن على ماذا نتمرد؟ على البصلة؟ على الروتين؟ أم على فكرة أن الحياة تستحق التمرد أصلاً؟ وشوبنهاور -ببسمة باردة- يلخصها في بندول يتأرجح بين الألم والملل. ليس لدينا خيار ثالث. إن هربت من هذا، وقعت في ذاك. أما رهين المحبسين، أبوالعلاء المعري لم يجلس طويلاً في صخب الفلسفة. قال كلمتين فقط، ثم اكتفى: "تعبٌ كلها الحياةُ… فما أعجبُ إلا من راغبٍ في ازديادِ!" هذا هو الاختصار العبقري. نحن نركض خلف زيادة في التعب، ثم نسأل: لماذا نتعب؟! شكسبير يطمئننا بأن "الدنيا مسرح كبير". هذا مريح! تشعر أن كل شخص مُسيَّر فقط لا مُخيَّر، وله دور واحد فقط في الحياة، ولا يستطيع الخروج منه! أما أوسكار وايلد فهو يضع السخرية على كرسي الفلسفة: "الحياة شيء مهم جدًا.. لدرجة أنه لا يمكن أخذها على محمل الجد". هل توافق على هذه العبارة؟! وهل عليك أن تأخذ الحياة بخفة.. وإلا قتلتك أهميتها. لكن برتراند راسل أحد أهم الفلاسفة التحليليين يقدّم لنا درسًا بسيطًا: "الخوف من الحياة أكثر فظاعة من الخوف من الموت.. والشجاعة أن تواجه الحياة، لا أن تواجه نهايتها". تقريبًا نفس تعريف طه حسين، ولكن بطريقة مختلفة وقائمة على التحدي والمبارزة والشجاعة. لذلك، نعود إلى القراءة: ملاذنا القديم. لأنها وحدها تمنحك تلك العزلة الراقية التي تهرب بها من ضجة الوجود. تمسك كتابًا، وتترك الحياة تتخبط وحدها في الخارج. ونسأل أنفسنا: هل ضروري أن تجد معنى لحياتك؟ (كما يريد نيتشه)، أم رواية تحكي عنها (كما يريد ماركيز)، أم هي كبندول يتأرجح بين الألم والملل (كما يعرفها الفيلسوف الألماني آرتور شوبنهاور). ما الذي تبقّى من كل هذا؟ جبران خليل جبران يذكرنا أن "الحياة تمشي ولا تلتفت". ونيرودا يقول إن "الحياة ليست الزمن الذي عشناه، بل الفرص التي أحببنا فيها". جورج إليوت الروائية الإنجليزية تضيف: "الحياة هي ما نتذكره.. وكيف نحكيه". تقريبًا نفس مفهوم ماركيز. وربما هذه خلاصة الفلاسفة: إذا لم تستطع أن تعيش الحياة كما تريد، فعلى الأقل اختر كيف تتذكرها.. كيف تحكيها؟! أما "هرمان هيسّه" فترك لنا وصية صغيرة بأنه يجب علينا الاستمتاع مهما كانت قسوة الحياة وفخاخها، يقول: "استمع للموسيقى بقلب واعٍ.. لعلّ المشكلة ليست في نشاز الحياة.. بل في أذننا نحن". أما الشعراء فقد تغنوا بالحياة طويلًا وكثيرًا.. ولكن أشهر جملة اشتهرت في أيامنا وتألفها الأذن: "الحياة حلوة بس نفهمها" كما غنى فريد الأطرش من تأليف أحمد بدرخان. وحقيقي ليس المهم أن تهرب من الحياة.. المهم ألا تهرب الحياة منا. ولكن إن سألتني، فأقول لك كما قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" في كتاب صحيح الجامع: "اغتنم خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هَرَمِك، وصحتَك قبل سقمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شغلِك، وحياتَك قبل موتِك". ولا أريد أن أرتدي ثوب الشيخ الواعظ، لكنني فقط أردت أن أقول لك أن الحياة هِبَةٌ من الله لك، اغتنمها على قدر المستطاع، أو كما قال كاتبنا الكبير محمود عباس العقاد: "فلسفة الحياة هي: غناك في نفسك، وقيمتك في عملك، وبواعثك أحرى بالعناية من غاياتك، ولا تنتظر من الناس كثيرًا تحمد عاقبته بعد كل انتظار." [email protected]