بين ابتسامات الفرحة، وأحزان الذكريات الأليمة، تباينت ملامح الأوجه للمصريين العائدين من ليبيا،منهم من يجري على ذويهم يأخذهم بالأحضان، والآخر يقف يتأمل في معبر السلوم البري الذي كان الملاذ الوحيد لهم هربًا من رصاصات الغدر والخيانة. فالصمت يكسو الوجوه،والملابس المهلهلة تتحدث عن حال مرتديها. ذكريات مؤلمة وقاسية دونتها ذاكرتهم، أملا في فضح النظام الليبي وعلى رأسهم القاتل معمر القذافي. كلماتهم لاتخلو من نبرات التي يكسوها الحزن، ونظراتهم يخيم عليها علامات التعجب، يتساءلون فى أنفسهم،هل حقاً نحن فى مصر؟.هل حقنا نحن مازلنا على قيد الحياة؟.أليس هذا الهواء النقى الذى يخلو من رائحة الجثث هو هواء مصر وليس ليبيا؟. أسئلة كثيرة تدور فى عقول المصريين العائدين لكن منعتهم آثار الصدمة من التوصل لإجاباتها،افترشوا الأرض غير مصدقين أن القدر كتب لهم الحياة من جديد، وأنهم هربوا من المرتزقة وأعوان القذافى ورصاص الموت. "بوابة الأهرام" رصدت كل ذلك من أمام معبر السلوم البرى على الحدود المصرية الليبية، أصوات الفرحة تتعالى فى اتجاه ،وآلام الذكريات تتعالى صرخاتها فى اتجاه آخر. محسن محمد توفيق ذلك المواطن المصرى ذات البشرة السوداء والذى تحمل بطاقته الشخصية محافظة أسيوط كان يعيش فى منطقة مسراته بليبيا وظل يعمل هناك قرابة العشر سنوات ظهر عليه الحزن وكأنه فقد أعز مايملك لكن بين كل هذا الحزن تسربت بداخله آمال العودة بسلام إلى أحضان أولاده فى أقصى صعيد مصر. سألناه فى توجس عندما كان يفترش أرض ميناء السلوم عما شاهده وهو عائد إلى مصر، فصمت قليلا ثم قال بصوت مرتفع :المرتزقة سرقوا تليفونى المحمول واعتدوا علىّ بالضرب وأخذوا أموالى كلها ،ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بإطلاق النار على 7 مصريين أمام أعيننا ولم نفعل اى شئ سوى الفرجة عليهم ". عاد صمته من جديد ثم طلب عدم الحديث ليطلب من زميله أن يحكى لنا مشاهده فقال: هناك مايزيد على 120 سيارة تم احتجازهم لمدة 3 أيام فى منطقة سيرت الليبية لايستطيع ركابها التحرك ومنع عنهم المرتزقة الطعام والشراب وعندما قاموا بالتظاهر للمطالبة بالرحيل إلى مصر قام هؤلاء المرتزقة بإطلاق النار العشوائى عليهم. فجأة وزميل مصطفى يحكى مأساة العدوة إذ بشخص يدعى محمود منتصر يدخل بصوت عالٍ ويقول :"دول ناس مش طبيعيين يابيه دول مجانين زى رئيسهم".وأضاف أن هؤلاء موالون للقذافى ويكرهون المصريين بسبب خطابه الذى ألقاه وقال فيه إن المصريين والتونسيين والسودانيين هم من يحرضون المرتزقة على قتل الأبرياء. هنا يدخل مواطن مصرى آخر فى الحديث فجأة وتظهر عليه آثار"البهدلة" حيث إنه يرتدى قميصاً مهلهلا تماما ويقول :هناك رسائل نصية تستقبلها الهواتف المحمولة فى ليبيا تتهم المصريين بأنهم السبب فيما يحدث فى ليبيا الأمر الذى تسبب فى تغيير معاملتهم للمصريين ،وبعدما كنا نأكل فى طبق واحد أصبحوا اليوم يرفعون السلاح فى وجوهنا. وبصوت منخفض يدخل محمود سلام الذى كان يعيش فى منطقة البيضا. ويقول:"دول كانوا عايزين يسرقوا فلوسنا وتليفوناتنا ".وعندما توسلت لأحدهم أن يترك لى هاتفى المحمول كى أطمئن على أسرتى فى مصر قام بصفعى على وجهى بشدة وقال لى :"بس ياحيوان". وأقسم محمود أكثر من ثلاث مرات أنه شاهد أطفالا لاتتعدى أعمارهم العشر سنوات يحملون أسلحة آلية يقومون بإطلاق الرصاص على اى من يقابلهم مهما كانت جنسيته،والكارثة – على حد قوله –أن هؤلاء الصغار يرتدون ملابس شرطة. "ياجماعة فيه ناس فى منطقة سيرت عايزه ترجع مصر مش عارفة ترجع ومحجوزة هناك أنقذوهم،احنا عرفنا نهرب،لكن دول هيعملوا ايه؟.هكذا بدأ أشرف كلامه عن وصفه لما شاهده خلال الأحداث الليبية. ووسط هذه المشاهدات من قبل العائدين من ليبيا إذ بأحدهم يطلب منى التحدث إلى أحد المصريين الموجودين فى ليبيا عبر هاتفه المحمول ثم قام بالاتصال به وأعطانى الهاتف قائلا :"خد اسأله عن الظروف فى المنطقة اللى عايش فيها". أمسكت بالهاتف إذ بمواطن مصرى يصرخ ويظهر من صوته الدموع قائلا:"انقذونا يامصريين إحنا محاصرين من كل مكان فى منطقة الزاوية من المرتزقة والليبيين الموالين للى ربنا ياخده". سألته:وماذا يمكن أن نقدم لك من مساعدات حتى نخرجكم من هذا الحصار؟ فقال وهو يصرخ فى الهاتف: الناس دى عايزين يموتونا ياناس ، وعايزين فلوسنا ،وبيضحكوا علينا بانهم عايزين يوصلونا لمصر،وفيه ناس مصريين صدقوهم وفى الطريق قتلهم المرتزقة فى منطقة الزاوية ،وأنا بقول لكل مصرى فى ليبيا لو حد قال لك تعالى أوصلك لمصر يرفض..يرفض..يرفض..لأنه هيموت قبل ميوصل وهيتسرق كل حاجة منه". واستكمل كلامه قائلا:لو عايزين تنقذونا تعالوا خدونا من الطريق البرى عند منطقة مسراته الليبية. وتساءل فى غضب:"فين السفير المصرى فى ليبيا..كل مانروح السفارة يقولوا مش موجود،وكان وعدنا إن كل المصريين هيوصلوا مصر لإى أمان،فين الأمان اللى بتكلم عنه سيادة السفير؟" فجأة انقطع الإتصال ،وخيم الصمت على الجميع،كل أدار وجهه فى اتجاه ،بعضهم قصد مبنى الجوازات لانهاء إجراءات خروجه من معبر السلوم،ومنهم من جلس على الأرض يفكر فى صمت ، ربما كان يبحث عن إجابات لأسئلته التى سألها لنفسه مسبقا عندما وضع قدميه على ارض مصر، لكن يبقى الصمت المكتوم بنبرات الحزن أصدق تعبير عما يكنه هؤلاء العائدون فى نفوسهم، حتى يكونوا شهود عيان على الفضائح التى ارتكبها النظام الليبى فى حقهم وفى حق الأبرياء الذين قتلوا برصاصات قذرة ،لكن تبقى ابتسامات الأمل لاتفارق الجميع فى ان يصل الجميع سالما إلى مصر،ليدون التاريخ أكبر عدد من الشهادات الفاضحة لنظام قطع نور الحرية على شعبه طيلة 42 عاماً.