عندما كانت الشيشان تأتي في ذيل الاهتمامات الدولية في أثناء الحرب تحولت هي وعاصمتها جروزني إلى حطام؛ نتيجة أشد قصف مدفعي وجوي تشهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية واليوم وبعد الإعلان أن اثنين من أصول شيشانية هما المشتبه بهما في الهجوم على ماراثون بوسطن سلطت عليها الأضواء، وأصبحت تتصدر عناوين الصحف كمن شهد ميلادًا جديدًا. بعد انتهاء الحرب الشيشانية أعيد بناء الطرق واختفت كل الجدران التي كانت تكسوها أثار الأعيرة النارية، بل أصبحت هناك مبان جديدة تصل إلى عنان السماء، وأفنية ممهدة يلعب بها الأطفال، كما أن هناك مسجدًا ضخمًا من الرخام يضاء ليلًا. لكن مع محاولة إلقاء نظرة متعمقة تتضح الحقيقة أكثر ويغيب البريق. فمن وراء الأبواب المغلقة يتحدث الناس عن مكان يشيع فيه الظلم يحكمه بالخوف زعيم مفروض من الكرملين. هذه المباني الشاهقة التي تفرض عليها حراسة مشددة في جروزني خالية وتصبح الشوارع مهجورة ليلًا. الشيشان مسقط رأس جوهر وتيمورلنك تسارناييف المشتبه بهما في هجوم بوسطن والذي تسكنه أغلبية مسلمة شهدت حربًا وقمعًا طوال قرون ولم تعد تهدد بالانفصال عن روسيا، لكنها أصبحت أرضًا خصبة لأحد أشكال التشدد الإسلامي الذي ينشر أتباعه العنف في مناطق أخرى من روسيا، وربما كان مصدر إلهام لمنفذي هجوم بوسطن. قالت ناشطة في مجال حقوق الإنسان طلبت عدم نشر اسمها شأنها شأن كثيرين ممن ينتقدون زعيم الشيشان المدعوم من الكرملين رمضان قديروف "ربما يبدو الوضع مستقرًا وهادئًا لكن هذه ليست الحال حقًا." وأضافت الناشطة أن جماعات متشرذمة من المتمردين تعيش في الجبال وأن "شبانًا في القرى يخرجون وينضمون إليها ويأخذون المواد الغذائية إلى الجبال." أنفقت موسكو المليارات على الشيشان لإعادة بنائها، وتفخر بأنه لم يعد بها أي تمرد انفصالي كان سببًا في إحراج الجيش الروسي في معارك في التسعينيات. وفوق أنقاض ميدان مينوتكا في وسط جروزني -حيث محت مدرعات روسية المنطقة تقريبًا من الوجود في يناير كانون الثاني 1995 - أصبح هناك مقاه فاخرة يجلس فيها شبان يرتدون سترات جلدية ونساء محجبات يأكلون السوشي ويستخدمون هواتف آي فون. تظهر صور قديروف (36 عامًا) وهو مقاتل سابق في الشيشان على اللافتات الضخمة وهناك لافتات أخرى مضيئة مكتوبًا عليها "رمضان.. نشكرك على جروزني". قديروف رجل قوي البنية ذو لحية مهذبة بعناية ويقدم نفسه على أنه شخصية ملتزمة دينيًا، ورجل أسرة ويحب وضع لقطات على موقع (انستاجرام) لتبادل الصور الفوتوغرافية، يحب الحفلات.. خاصة تلك التي تقام تكريمًا له، وفي عام 2011 استعان بالمغني سيل ونجوم من هوليوود، من أمثال جان كلود فان دام وهيلاري سوانك لحضور حفل عيد ميلاده، وبعد شكاوى من جماعات حقوق الإنسان اعتذرت سوانك، وأقالت مدير أعمالها، ومنحت المبلغ المكون من ستة أرقام والذي حصلت عليه من الحفل إلى جمعية خيرية. ينفي قديروف وسلطاته التورط في أي انتهاكات أو جرائم قتل أو اختفاء، لكن البعض يقول إنه معروف منذ زمن طويل بإنكاره الضلوع في جرائم قتل أو اختفاء غامضة. بينما تربط جماعات لحقوق الإنسان بين قديروف وقتل الصحفية انا بوليتكوفسكايا الروسية ذات التوجهات المعارضة وشيشان مقيمين في المنفى في النمسا وتركيا وزعماء شيشان منافسين قتلوا بالرصاص في موسكو ودبي وكلها قضايا ينفي التورط فيها. خطفت نتاليا استيميروفا الناشطة الروسية في مجال حقوق الإنسان في جروزني عام 2009، وعثر عليها ميتة في وقت لاحق، وتعدد جماعات حقوقية أسماء ما يصل إلى خمسة آلاف شيشاني جميعهم مفقودون. وقال مكتب قديروف إنه ليس متاحًا كي تجرى معه مقابلة، ولاؤه ربما يمثل إحراجًا حتى للكرملين، ففي الانتخابات الماضية حصل حزب روسياالمتحدة الذي ينتمي له الرئيس فلاديمير بوتين على أكثر من 99 في المئة في انتخابات أجريت في الشيشان، كما كانت نسبة الإقبال أكثر من 99 في المئة تمامًا، كما كان يحدث في العهد السوفيتي، وأطلق اسم بوتين على الطريق الرئيسي في جروزني. وقال معارض طلب عدم نشر اسمه "ما يحدث هنا سخيف، إنها رواية جورج أورويل 1984... لن يتغير شيء هنا في أي وقت قريب. ربيع شيشاني؟ انسوا الأمر."، في جروزني يصيب المارة الخوف والجزع عندما يمر موكب قديروف في المدينة، ويركب أقرب حلفائه أفخر السيارات. كان أحمد قديروف والد الزعيم الشيشاني مفتيًا ومقاتلًا سابقًا ولاه بوتين على الشيشان، وظل يحكمها حتى اغتياله عام 2004، ويضم متحف قديروف الأب أكبر ثريا في روسيا والتي يبلغ وزنها 1.5 طن وتحتوي على 22 كيلوجرامًا من الذهب وهي مصنوعة في إيران. وربما في محاولة للحد من تأثير المتمردين الإسلاميين وإرضاء التوجهات الدينية حظر قديروف احتساء الخمور والقمار وشجع تعدد الزوجات والحجاب للنساء. لكن ترويج قديروف للتوجهات الإسلامية لم يساعد على الحد من تأييد الرؤية الأكثر تشددًا التي يتبناها مقاتلون يتزعمهم دوكو عمروف وهو قائد شيشاني سابق للمقاتلين الانفصاليين يقود تمردًا إسلاميًا يركز خاصة على داغستان المجاورة. وكما كان الحال خلال العهد السوفيتي يستحيل معرفة رأي الشيشان في زعيمهم، وحين يطرح عليهم السؤال على الملأ يردد المواطنون عبارات جاهزة تنم عن الولاء. قالت فاطمة ماجوميدوفا (44 عامًا) التي تعمل في متجر للزهور "لا أعرف ما الذي كان سيحدث لنا بدون زعيمنا.. نحن أحرار الآن." وقال حمزة خير أحمدوف وهو نائب لارفع شخصية دينية على المستوى الرسمي في الشيشان "لا أعتقد أن كثيرين يريدون الرحيل، في واقع الأمر الكثير من الشيشان يقولون إنهم يرغبون في العودة، من يغادرون البلاد هم من يسعون إلى حياة سهلة." وأضاف "من يريدون تحقيق إنجاز ما.. نجاح معين.. هم من يعودون.. يحصلون على وظائف ويشاركون في مشاريع للدفاع عن الأخلاق القويمة والقيم الروحية ومساعدة جمهوريتنا." لكن خارج وسط المدينة البراق يمكن أن نلمح بلدًا فقيرًا تقترب فيه نسبة البطالة من 80% في بعض المناطق. يتدفق كثيرون على جروزني؛ بحثا عن العمل لكنهم يشكون من أن الوظائف يحتكرها أعوان قديروف. قال ليوما وهو رجل من بلدة أوروس مارتان منتظرًا فرصة عمل على جانب الطريق مع عمال عاطلين آخرين من أنحاء الشيشان "هذا صعب جدًا. لا يوجد عمل تقريبا. أنا بلا عمل منذ سنوات، كل مواقع البناء الرئيسية يديرها أعوان رمضان ومن المستحيل الحصول على وظيفة هناك لأن الجميع يريدون العمل هناك."