تعيش مصر حالة من الانفلات، بدءًا من إدارة الشأن السياسي، مرورًا بالاقتصادي، وانتهاءً بمثيله الاجتماعي الأمني الذي يمس حياة المواطن اليومية. السبب الرئيس بتلك الحالة قصور مؤسسات الدولة عن أداء الدور المنوط بها وجرها للصراع السياسي، وفي مقدمتها الشرطة، ما يدفع الناس لأخذ زمام المبادرة، وملء فراغ انسحاب الدولة وغيابها سواء بشكل فردي أو جماعي. والمشكلة أن الحلول التي تطرح لمعالجة هذا الانفلات، بما فيهم الأمني، تأتي خارج سياق الأزمة وحساسية التوقيت السياسي الذي تمر به مصر، وتعبيرًا عن تفكير مثالي أقرب للسذاجة السياسية، تقود لتقويض أركان دولة اشتهرت ببيروقراطيتها وسلطويتها على مدار التاريخ المكتوب للإنسانية. مثالان على ذلك، هناك دعوة أقامتها رموز ليبرالية أمام مجلس الدولة تطالب بإلغاء مؤسسة الأمن المركزي، الذي يسد حيزا لا يستهان به في آلية توفير الأمن، وإصدار حكم قضائي بإلزام كل من رئيس الجمهورية ووزيرى الداخلية والدفاع بإصدار قرار بحله وتشكيل أجهزة أمنية نظامية مدنية بديلة متخصصة ومدربة. بالتزامن مع ذلك، هناك جهود من حزب البناء والتنمية والعديد من الأحزاب السلفية باستثناء النور والوطن، لحشد الدعم والتوافق السياسي لتشكيل اللجان الشعبية، لتعويض الغياب الملحوظ للشرطة بالشارع واستعادة الأمن المفقود. وكلٍ منهما لديها من المسوغات الأخلاقية والقانونية ما يُدعم به موقفه ورؤيته. إلا أن السؤال الذي لم يدر بخلد كل منهما هل يحتمل الواقع السياسي المصري مثل هذا المجازفة السياسية..؟ عوضًا عن البحث عن آلية أبسط تسمح بإعادة هيكلة الشرطة بشكل يسمح بمعالجة إخفاقات الفترة الماضية، قضية ليس كما يعتقد البعض مستحيلة، ولكنها سهلة إذا توافرت الإرادة السياسية والتوافق المجتمعي، فعبد الناصر استطاع إعادة هيكلة مؤسسة أكبر وأضخم هي الجيش المصري في أقل من عام، وقاد أعظم انجاز عسكري مصري. في سياق تبريره لحل الأمن المركزي، يقول المحامي عصام الإسلامبولي أن فكرتهم ليس حل الجهاز، وإنما استبداله العناصر المنتدبة من القوات المسلحة والتي يغلب على الجهل والأمية بعناصر شرطية تكون مدربة ومؤهلة لمهام الأمن بالشارع، عبر استبدال تركيبة الجهاز، هو ما قصدوه بتشكيل أجهزة أمن نظامية مدنية بديلة متخصصة و مُدربة. مؤكدًا أن وضعية المؤسسة غير دستورية ويتخللها تحايل على مهمة أداء الخدمة العسكرية التي يجب أن يكون نطاقها الجيش وليس الشرطة. يؤيدها شخصيات لها ثقلها مثل: الدكتور جابر جاد نصار أستاذ القانون الدستوري، والدكتور عبد الجليل مصطفى القيادي بجبهة الإنقاذ والدكتور جمال زهران أستاذ العلوم السياسية بجامعة قناة السويس، بقولهم لابد من حل الجهاز، لكونه يمثل آلية للسخرة داخل المؤسسة الأمنية، فلدينا حسب توصيف نصار أكاديمية ممتازة للشرطة، تستطيع بجانب عملها أن تفرز لنا جنود وضباط أمن مركزي، سواء بشكل مباشر من خلال إنشاء أكاديمية مخصصة لهذا الغرض. فكرة لقيت معارضة شديد من سياسيين وأمنيين، فقد وصفها أحمد عودة مساعد رئيس حزب الوفد بكونها تعبيرًا عن حالة الفوضى التي وصلت مصر، حيث يوظف القانون لتبرير رفع دعاوي بقصد شريف أو غيره للشهرة، أو الإضرار بالمجتمع. وقال عودة إنها مجرد فقاعات بالهواء، لكون أعمال التجنيد وتوزيع قوات الأمن واختصاصاتها وتحديد عددها من ضباط وجنود وتعتبر من أعمال السيادة، التي لا رقابة للقضاء عليها. إذ أن رقابة القضاء الإداري علي القرارات الإدارية حتى لا يشوبها القصور أو إساءة استعمال السلطة والانحراف بها بعيدًا عن القانون والدستور، لذا أتوقع لتلك الدعوي الرفض. واتفق معه اللواء مجدي البسيوني، مساعد وزير الداخلية السابق بقوله أن دعوة تمثل تحايل هدفها فتح المجال للعناصر السياسية لتحل محل الشرطة كجهاز رسمي. مؤكدًا أن مؤسسة الأمن المركزي بشكلها الحالي المنتدب من الجيش لا غني عنها للدولة، إلا إذا توافرت للداخلية موازنة ضخمة تعادل موازنة الجيش للإنفاق على الهيكل المتصور الجديد. إذ أن الداخلية لا تمتلك موازنة مالية لتوفير راتب شهري لكل مجند أو أمين شرطي بواقع 1500 جنيه شهريًا، غير الزيادات الدورية، لأننا بالواقع في حاجة إلى زيادة تعادل 3 مليارات جنيه سنويًا. أضف لذلك أن الدولة ليست لديها الموارد المالية الكافية لاستيعاب ما يعادل 200 ألف أمين شرطة، هم عدد قوات الأمن المركزي الحالي برواتبهم ومعاشاتهم. ولفت البسيوني النظر لنقطة محورية، لكون ما يطالب به البعض لن يحدث تأثيرًا كبيرًا على ثقافة وعمل أجهزة الأمن المركزي، لكونها حسب توصيفه منوط بها فض الشغب من ثم فهي عناصر منفذة، أما الذي يرسم لها التوجهات والرؤى قادة الداخلية. جدل الشرطة ودورها المفقود داخل المجتمع أنتقل لقوى التيار الديني بشكل مغاير، من خلال محاولة حشد الدعم كما يسعى حزب البناء والتنمية للتوافق السياسي المجتمعي حول آلية تكوين اللجان الشعبية التي يُبتغى منها ملء فراغ الأمن بالشارع. ويناقش المؤتمر الذي دعا إليه الحزب بعد غد الأربعاء الأطر القانونية والإدارية الحاكمة لتلك اللجان، حسب توصيف قادة الحزب، من أجل أن تخرج للنور بشكل توافقي. إلا أن توقيت تلك الدعوة، يفتقد للحس السياسي أيضًا، فهناك الاتهامات المسبقة للإسلاميين بالسعي لتكوين مليشيات مسلحة تحل محل الداخلية ليس في ضبط الأمن والشارع وإعادة الاستقرار المفقود فحسب، وإنما أيضًا لتأديب المعارضة المدنية، أو تصفية الحسابات السياسية معهم كما حد زعم عزازي علي عزازي القيادي بالتيار الشعبي. كما عارضها أحد الشريك السلفي بالتحالف الانتخابي حزب الوطن، حيث وصفها يسرى حماد نائب رئيس الحزب بكونها تصرف بعقلية رجل البيت وليس بعقلية رجل الدولة، لكوننا ببساطة يمكن أن تتحول لميليشيات، أو ما وصفه بالحرس الثوري على النموذج الإيراني. اتفق معه أحمد عودة بتأكيده إن ما نعانيه من خلل وقصور بالأمن ليس معناه أن نستبدله بشركات الحراسة الخاصة أو الميليشيات التابعة لأي اتجاه سياسي أو ديني، فحماية الأمن تكون للمحكومين وليس لأمن الحاكم فقط، وهذا شأن الشرطة المدنية، أما الحفاظ علي الدولة وحدودها فهو شأن القوات المسلحة. واختتم قائلا: إذا فتحنا الباب لتلك التخاريف أن تصبح حقيقة، فإننا كمثل الذي يتعجل وقوع حرب أهلية لتصبح الشوارع ساحات قتال، وهذا ما لا نرجوه ولا نقبله ونحذر منه بشدة.